المجاهد الشهيد عبد الحسين برونسي
عنوان هذه الحلقة : بين تجرع الحرمان وتقحم الحرام
"مستلة من كتاب خاكهاى نرم كوشك"
تشهد القرية منذ الصباح، حركة غير إعتيادية... سيارات حكومية تتردد جيئة وذهابا... موظفون مدنيون وعسكريون قدموا الى القرية ثم غادروا، قبل أن يعودوا إليها ثانية... وقبيل الظهر غادر الجميع، بعد أن ملأوا القرية بالملصقات الجدارية..
تضاحك الأهالي.. وبدا لهم أن المهمة التي جاءت بها الحكومة، لا تحتاج إلى تعليق كل هذه الأوراق الملونة على الجدران... ذلك أن الغالبية المطلقة منهم لا تعرف القراءة والكتابة...!
ومع افتقار القرية للكهرباء وانعدام إمكانية الإفادة من التلفاز، أدركت الحكومة عجزها عن مخاطبة الأهالي، فاختارت أبسط السبل، من خلال إذاعة بيان عبر مكبرات الصوت مفاده: أن الملك الذي "تؤرقه" آلام الفلاحين من مواطنيه، قرر منح كل من لا يملك أرضاً للزراعة، قطعة أرض...
المسؤولون الذين أعلنوا ذلك على الملأ، لم يكلفوا أنفسهم عناء النزول من سياراتهم، مكتفين بتكرار الإعلان، ثم العودة من حيث أتوا..
تسامع السكان بالخبر، فتجمعوا في حلقة كبيرة قرب المسجد متسائلين عن حقيقة القضية...
وشيئاً فشيئاً، تداخلت الأصوات، واختلطت التعليقات، وإن بدا أن الجميع يشكك في الموضوع...
أطلق أحدهم ضحكة ساخرة، وصرخ:
- إنها لعبة قديمة جديدة، جربناها مراراً...
رد آخر:
- أجل... يجب أن نترقب... فلابد أن يكون هناك أمراً يراد تمريره تحت هذا الغطاء...
دخل على الخط رجل عجوز، وقال بتعلثم: من... من يدري... فلربما... أجل، ربما صح ما يقولون...
إنبرى الآخران متهكمين: ماذا... أتصدق أنت هذه الترهات؟!
وتصاعدت حدة الجدال، حتى أصبح سجالاً حامياً، لم يوقفه، الّا صوت المؤذن الذي ارتفع لصلاة الظهر.
كان سكان القرية كغيرهم من أبناء الشعب الإيراني المسلم ساخطين على النظام الملكي... صحيح أن دواعي السخط مختلفة... بيد أن الغالبية ترى فيه نظاماً معادياً للدين والأخلاق، مفرطاً في حقوق الشعب، عميلاً للغرب.
أهالي القرية الذين يعزون حالة الفقر والحرمان التي تعانيها الأكثرية لظلم النظام واستبداده وسوء إدارته وفساد مؤسساته؛ راحوا يستبشرون بالإحتجاجات والتظاهرات الشعبية التي تزايدت هنا وهناك... مؤكدين أن الشعب لابد وأن يقول كلمته النهائية في هذا النظام الفاسد.
أما النظام نفسه، فقد دعته تلك التطورات الى التفكير باتخاذ إجراءات ما لامتصاص النقمة الشعبية...
وحيث أن سكان القرى والفلاحين، هم الشريحة الأوسع في المجتمع آنذاك، لذا فقد ظن أن إسكات هذه الشريحة، سيغير من معادلة الصراع لصالحه...
ولهذا ولد مشروع توزيع الأراضي...
ومع تزايد زيارات المسؤولين المحليين إلى القرية، يرافقهم المهندسون وموظفو دوائر التخطيط والزراعة والري... إنتقلت القضية من مسألة مثيرة للإستطلاع والفضول، إلى حالة تدعو إلى الإهتمام والمتابعة...
وعندما أخذ موظفو الحكومة يطرقون بيوت القرية صباحاً لتنظيم جرد عام بعدد الأسر والأفراد، وفرز القادرين على العمل من غيرهم... بدا أن القضية إقتربت من الواقع أو كادت.
وتناهى إلى أسماع الناس يوماً إشاعات تقول: أن الحكومة ستصادر أراضي الإقطاعيين... فسر الأهالي أبلغ السرور، ذلك أن هذه الفئة البغيضة أرهقت الناس لعهود طويلة فقراً وعناءاً وامتهاناً...
وبعد أسابيع سرب موظفون صغار نبأ مفاده: أن قرار المصادرة لن يشمل الإقطاعيين الكبار الموالين للنظام، وإنما طائفة من ملاكي الأرض الصغار، ممن لم يعودوا على قيد الحياة.
عبد الحسين الذي كبر وأصبح من شباب القرية المرموقين؛ تزوج متخذاً لنفسه مهنة غالبية الأهالي المشغولين بالزراعة.
كان عبد الحسين طيباً صادقاً قنوعاً لطيف المعشر، يعجب الكبار والصغار مجالسة، والإستئناس بآراءه، وإن بدا بعضها متشدد أحياناً... ألم يعتبر مشروع توزيع الأراضي جائراً، معلقاً بالمثل: وهب الأمير ما لا يملك!
قال مخاطباً أحد رجال القرية: ألا ترى أن القرار إقتصر على أراضي الأموات من بعض الملاكين الصغار؟!... إذ لو كانوا أحياءاً لاستثناهم.
رد عليه الآخر: ومن أدراك؟
لأنهم "سيدفعون" للحكومة كزملائهم الآخرين ويعطلون المشروع.
قال الرجل: وما عسى أن يهمنا ذلك؟.. المهم أننا سنملك الأرض.
أجاب عبد الحسين بغضب على غير طبيعته الهادئة: كيف لا يهمك... ألا تعلم أن هذه الأراضي تعود للأيتام من عوائل اولئك الملاكين.
وتسارعت خطوات الحكومة... فقد شرعت بالفعل بتوزيع الأرض... وأصبح لكل رجل له أسرة مستقلة، حق المطالبة بقطعة من الأرض...
وعقب أسابيع قليلة، شمل التوزيع جميع سكان القرية باستثناء فرد واحد، هو عبد الحسين...
وبعد أن عجز أهله وذووه عن إقناعه للعدول عن رأيه، بذل كبار القرية والوجهاء مساعيهم أيضاً دون جدوى.
قال له أحدهم بمحضر من أبيه: ولماذا كل هذا الإصرار على الرفض، ألم يتسلم أبوك وأخوك وأقرباؤك؟!
رد عبد الحسين بابتسامة ممزوجة بالمرارة: إن الله يسأل كل إنسان عن عمله..
قال أبوه وقد ظنه يعرض به:
إبق إذن إلى آخر عمرك، فقيراً أجيراً، لا تملك شيئاً، تعمل لهذا وذاك...
إبتسم عبد الحسين وقال بثقة: الله هو الرازق، يرزق من يشاء!
وفي إحدى الليالي، سمع عبد الحسين طرقاً متواصلاً على باب بيته..، فوجئ وهو يفتح الباب بوجه إبن أحد مالكي الأرض المصادرة.
قال الرجل دون مقدمات: إسمع يا سيد برونسي؛ أردت أن أقول لك كلمة وانصرف... إنني عرفت بامتناعك عن استلام قطعة أرض...
سكت قليلاً ثم أردف: إصغي إلي جيداً... إذا كان الجميع قد أخذ أرضي بالقوة، فأنا أقدمها لك عن طيب خاطر، تقديراً لموقفك الشريف... إذهب إلى دائرة التوزيع، واستلم قطعتك، واعتبرها هدية مني...
إحمر وجه عبد الحسين وقال بشكل قاطع: لن يكون ذلك أبدا.
عاد الرجل يلح، لكنه عندما شاهد إصرار عبد الحسين المستميت، إختنق بعبرته، وقد أذهله هذا الموقف الكريم... ثم ودعه وانصرف.
مصادرة الحكومة الأرض من أصحابها الحقيقين، حولها في عيني عبد الحسين من تربة طيبة الى بؤرة محرمة... لذا فقد أصبحت حياة القرية بالنسبة له، صعبة لا تطاق... فلم يتردد في تنفيذ القرار الذي فكر فيه، بترك القرية، والهجرة الى مدينة مشهد...
وفي هذه المدينة الكبيرة... راح يذرع الشوارع بحثاً عن عمل... وقادته خطواته إلى محل لبيع الخضار... ليخرج بعد مفاوضات قصيرة باتفاق.
وتململ عبد الحسين بعد أيام، قبل أن يصارح زوجته، بأن مواصلة العمل مع صاحب الخضار، لم تعد ممكنة.
سألته زوجته بإشفاق: لماذا؟
- إنه يغش... يرش الخضروات بالماء، ليزيد من وزنها.
أطلق زفرة وقال: سأبحث غدا عن عمل آخر.
ولم يطل به الترقب، فقد وجد بغيته هذه المرة في محل لبيع الألبان وبأجور أفضل.
سعدت زوجته بهذا النبأ، غير أنها فوجئت به بعد أسبوعين وقد عاد حاملاً مسحاة ومعول.
- خيراً.. لأي شيء تريد هذا؟
- سأعمل من الغد في البناء.
- ولماذا تركت محل الألبان، ألم تقل أنه يعطيك أجوراً أفضل.
- صحيح، لكنه يغش صراحة... يخلط اللبن الجيد بغيره، ويتلاعب بالميزان.
عبد الحسين الذي بدأ رحلة العمل في البناء، عاملاً عادياً، أصبح بعد فترة غير طويلة بناءاً مشهوراً... قبل أن يدخل ميدان السياسة ويلمع إسمه في تنظيم التظاهرات في مشهد ضد النظام الملكي...
لكن... تلك قصة أخرى.