المجاهد الشهيد داوود كريمي
عنوان الحلقة: المحطة الصلواتية (مستلة من كتاب "يك روز يك مرد" أي رجل وموقف)
توقفت الحافلة أمام مبنى خشبي مربع منخفض السقف وبدأ ركابها بالنزول..
لم يستطع الركاب إخفاء مفاجأتهم بأصوات القصف المدفعي التي راحت تسمع من بعيد... إذ لم يجر بحسبانهم أن خطوط القتال قد أصبحت قريبة نسبياً...
ضحك عضو المنتخب الإيراني لكرة القدم الذي انفصل شيئاً ما عن بقية الركاب، وهو يقرأ "المحطة الصلواتية" كعنوان للمبنى الذي بدا له أشبه بالمطعم..!
تركزت عيون رواد المحطة – وهم من المقاتلين – على الركاب الذين راحوا يدخلونها، متهامسين ضاحكين...
تهالك عضو المنتخب على أول كرسي صادفه، قبل أن يبتسم للشيخ الذي سارع إليه يحيه، ويضع أمامه كأساً من عصير البرتقال وقال:
- لماذا اخترتم هذا الإسلام لمطعمكم يا أبي؟!
أجاب الشيخ ضاحكاً:
- المطاعم في كل مكان، تطالب زبائنها بالمال لقاء ما تقدمه لهم من خدمة... أما نحن، فنستقبل المقاتلين الذاهبين الى خطوط القتال والزائرين، ولا نطالب أحداً بغير الصلاة على محمد وآله... قال الشيخ ذلك، وتابع جولته على بقية الركاب، ضاحكاً...
همس أحد المقاتلين لجليسه:
- من هؤلاء؟ يبدو أنهم زائرين؟
رد الآخر:
- أجل... إنهم وفد من الأدباء والفنانين والرياضيين، ينوون زيارة الجبهة...
لا زال عضو المنتخب، يمسك بكأس العصير، دون أن تمسه شفتاه... فقد استلفت عينيه، وجه رجل كهل محبب بين المقاتلين... سبق له أن رآه... ولكن أين؟! لقد بدا له الأمر، أشبه بذكرى بعيدة... لكنها ذكرى لها وقع طيب في خاطره...!
انتبه الى نفسه... لعله أطال النظر أكثر مما ينبغي... أحس بشيء من الإحراج.. تناول جرعة من كأسه، كان العصير بارداً ولذيذاً، ارتشف جرعة ثانية، ثم عاد يحدق في وجه الرجل من جديد...
إبتسم الرجل... تراه ابتسم له؟... يا إلهي..!
أيكون هو.. أجل إنه ليبدو هو!... بل هو بعينه..!
أجل... هو... هو...!
نهض واقفاً.... وضع الكأس على المنضدة، وتقدم نحو الرجل.
فوجئ الرجل بالرياضي الزائر وهو يحتضنه... إلا انه تعامل بلباقة وأريحية وأخلاق عالية، وقال:
- أنا داوود... داوود كريمي... ولتعذر ذهن أخيك المتحالف مع النسيان... وأردف ضاحكا:
- الآخرون يحالفهم الحظ، وهو يحالفه النسيان..!
مسح عضو المنتخب عينيه اللتين اغرورقتا بالدموع، وقال:
- الحق معك يا حاج... لقد مر على تعارفنا القصير، عهد طويل... وكنت آنذاك صبيا، لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره...
إبتسم الحاج، كمن لم يتسن له التقاط رأس الخيط بعد، وقال:
- كما قلت لك، فأنا والنسيان صديقان حميمان، فلا تتصور أنك ستنجح في التفريق بيننا بسهولة، واطلق ضحكة قصيرة.
رد الشاب وقد بدا مصراً على تنشيط ذاكرة الحاج:
- إننا أبناء محلة واحدة... إلا أنني انتقلت فيما بعد الى محلة أخرى... ولقد كنت تقطع الساحة الصغيرة القريبة من بيتكم – عصر أحد الأيام – وكان هناك مجموعة من الصبية يلعبون كرة القدم... أما أنا فقد وقفت على هامش الساحة، بعد أن تشاجرت، أرقب اللعب من بعيد... فأتيت أنت لتدنو مني وتسألني:
- لماذا لا تنظم الى أصدقائك وتلعب... فأجبتك وقد غلبني البكاء:
- لقد منعوني اللعب...!... فاكتسى وجهك بالألم... ثم ابتسمت تشجعني وقلت:
- لا تبكي...!... كن رجلاً...!.. انتظرني قليلاً، سنلعب معاً... وذهبت... وما أسرع ما عدت، ومعك كيس مليء بالكرات الملونة.. لعبنا بعض الوقت معا... وعندما ذهبت، تركت الكيس بكراته... فعدوت خلفك أناديك... حاملاً الكيس... إلا أنك التفت نحوي مبتسماً، وقلت: هو لك...
- يا إلهي!... هذا هو الطفل اليتيم... قال الحاج مع نفسه ثم ضحك وقال:
- أجل لقد تذكرت...! وأضاف: ما شاء الله، لقد أصبحت رجلا..! ضحك الشاب وقال بامتنان:
- لقد أثمر تشجيعك، لذلك الصبي اليتيم، لاعب الحارة... ليصبح لاعباً على مستوى البلد!
إحمر وجه الحاج قليلاً، وقال ساعياً الى تغيير مجرى الحديث:
- أنتم الرياضيون في ساحاتكم، ونحن المقاتلون في ساحاتنا، كلانا مطالبان بأن نصنع النصر من أجل عزة الإسلام والبلد الإسلامي.
غادر الوفد الزائر الى الجبهة، مودعاً من قبل المقاتلين... فيما بدا أن الحاج داوود، يفكر هو الآخر بالإنصراف نادى أحد المقاتلين:
- يا جماعة... إن الحاج يتحين الفرصة للإنسحاب...
فهتف آخر:
- ضيقوا الحصار عليه..!....
تقدم ثالث وأمسك بيد الحاج، وهو يقول:
- أرجو أن لا تلجئنا – أيها الحاج – لإستعمال اسالبينا الميدانية..!
فضحك الحاج وقال:
- وما هو المطلوب؟
رفع الثالث صوته وهو يقول:
- يا جماعة...! كفو عن الرجل، فلقد رفع الراية البيضاء.
أحاط المقاتلون بالحاج، وهم يداعبونه... قال أحدهم:
- نريد أن تحدثنا عن واحدة من ذكرياتك أيام النظام البائد...!....إعترض الحاج برفق:
- لم يبق لنا مزيد وقت...
عاد المقاتل نفسه الى المناداة:
- احذروا...! هناك محاولة لفك الحصار...!
ضحك الحاج... ثم طافت بوجهه سحابة ألم، قبل أن يتنهد ويقول:
في إحدى المرات، دخلنا في مواجهة غير محسوبة مع قوات أمن النظام... كنا مجموعة مسلحة... ولكن، لم يكن معنا سوى مسدس واحد..
ومنذ الدقائق الأولى للمواجهة، أصيب أحد عناصرنا إصابة بالغة... واستطعنا – بحمد الله – من سحبه، رغم وابل الرصاص ومطاردة عناصر الأمن...
لم نكن قادرين على المجازفة، بتأجير سيارة، أو حتى التوقف لتضميد جراح صاحبنا... فظلت تنزف طول الطريق...
ورأينا أن أسلم طريقة، هي اختراق الأحياء القديمة، ونقله الى بيتنا، رغم بعد المسافة..
وتمت عملية النقل بعون الله بنجاح... لكن بمشقة كبيرة جداً... كان علينا أن نقدم تفسيراً للحادث، لكل عابر سبيل يشاهدنا ونحن نحمل رجلاً غارقاً بالدماء!
المهم، اننا وصلنا، وأحضرنا طبيباً الى البيت لمعالجة الجريح... ولكن القضية لم تنته عند هذا الحد.
ارتفع رنين الهاتف... فنظر أحدنا الى الآخر... قبل أن ارفع الحاكية بحذر... باغتني صوت أحد أفراد مجموعتنا الذي بقي لمراقبة الموقف، قائلاً:
- إن عناصر الأمن، بدأوا بتتبع آثار الدم، وانهم سينتهون اليكم لا محالة... مقترحاً الإنتقال الى مكان آخر..
كان تنفيذ هذا الإقتراح بمثابة إنتحار... ذلك أن موقع بيتنا المنزوي في شبكة من الأزقة الضيقة، لا يسمح بإدخال سيارة لنقل الجريح... كما أن حالته لا تتحمل جرجرته ونكأ جراحه... فلم يبق أمامنا من طريق، غير اللجوء الى الله تعالى، فانخرطنا بالدعاء...
شمل الحاج الجميع بنظرة، وقال:
- هل تعرفون ما هو دعاؤنا... ثم أجاب بنفسه:
- دعونا الله تعالى، أن ينزل المطر عاجلاً..!
سأل أحد المقاتلين، وقد بدا أنه لم يتابع القصة جيداً:
- وماذا تفعلون بالمطر؟!... رد الحاج بسرعة بديهة:
- حتى نسقي حقلنا يا عزيزي...! فضج الجميع بالضحك..!
وتابع الحاج:
- كانت الدموع تنسكب بغزارة مع كلمات الدعاء المنطلقة بإخلاص وحرارة وأمل: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ونظر الرحيم الى ضعفنا وقلة حيلتنا... فأغاثنا.. وسرعان ما سبحت أزقتنا الضيقة بالمطر...
التفت الحاج الى السائل، وقال:
- وهكذا غسل المطر، آثار الدماء، التي كانت ستقود رجال الأمن الينا.
فاه الحاج بكلماته الأخيرة، وقد تندت عيناه هو الآخر بالدموع... ربت أحد المقاتلين على كتفه، وقال ممازحاً:
- لا حاجة للبكاء يا أخي... لقد أفرجنا عنك...!... فانقلب الموقف الى الدعابة والضحك.... قبل أن يغادر الحاج وسط احتفاء إخوانه المجاهدين، وتوديعهم الحار..!