عنوان هذه الحلقة: بعيداً عن دائرة الضوء
مستلة من كتاب (يك روز يك مرد) أي: رجل وموقف
رددت جنبات المعسكر صوت المؤذن الشجي، فيما تواصل توافد المصلين على القاعة الكبيرة التي اتخذت كمسجد وسط المعسكر.
اغتبط الزائر الذي وصل تواً بهذا التزامن وتوجه الى المسجد... مبيتا في نفسه العودة سريعاً، فور الفراغ من أداء مهمته...
مشهد المقاتلين، الذين انتظموا للصلاة بزي واحد، استدعى لديه، ذكريات أصدقاء استشهدوا وآخرين لم يعد يعرف عنهم شيئاً... كالحاج داوود كريمي الذي زامله في المستشفى، بعد دخولها جراء إصابتهما بالسلاح الكيمياوي.
الحاج داوود، الأخ الطيب الودود...
لكم تألم، وهو يسمع استقالته من مسؤوليته الكبيرة في قوات حرس الثورة الإسلامية... متمنياً أن يراه ليعرف سبب قراره ذاك...
تراءى له في تلك اللحظة مقاتل شبيه بالحاج... فضحك مع نفسه، وقال: يا لبراعة الخيال..!!
تابعه بعينيه، فرآه يجلس، وحيداً منعزلاً، كأنه لا يعرف أحداً، ولا يعرفه أحد...! فقال مع نفسه: لا يمكن أن يكون هذا، هو الحاج داوود..!
ارتفعت الأصوات فجأة، منبأة عن قدوم إمام المسجد، وسرعان ما انخرط الجميع في الصلاة.
ومع انتهاء الصلاة.. بدأ يستمع لشيء أشبه بهمس بدأ يتعالى: إنه الحاج، إنه الحاج...!
قال بصوت شبه مسموع: سأقطع الشك باليقين...!
وثب من مكانه مخترقاً الصفوف ليصل الى حيث وجد الرجل لم يغادر مكانه بعد...
توقف لحظات وقد شلته المفاجأة... يا إلهي...! إنه الحاج داوود بلحمه ودمه...!
خطا نحوه خطوة عريضة، مطلقاً السلام بنبرة استعراضية...
التفت اليه الحاج، وفي وجهه رجاء، يدعوه للغض من صوته...
تصافح الرجلان بحرارة... وفي أثناء ذلك أعرب الحاج عن رغبته في البقاء بعيد عن الأضواء...
إنتحى به جانبا، وقال وهو يشير الى بدلة المتطوعين التي ارتداها:
- ما هذا؟!
أجاب الحاج والإبتسامة لا تفارق شفتيه:
- لباس، كما ترى...!
ضحك وقال:
- هل أستطيع أن أفهم، لماذا اعتزلت الوظيفة... لم أرك يوماً تتهرب من المسؤولية... وها أنت ترى، إننا لا زلنا نخوض الحرب...!
رد الحاج يحاكيه:
- ها أنت تراني في لباس الحرب... أما المسؤولية فقد تحملناها في وقت قلَّ الناهضون بها... أما الآن.. فلم يعد الأمر كما في السابق... إنني أعتقد أن الحرب قد وجدت الرجال الجديرين بقيادتها والحمد لله.
تداول الرجلان النقاش لبعض الوقت... قبل أن يأزف موعد مهمة الصديق، فتوادعا ليمضي كل منهما في طريقه.
كان يقود السيارة صوب المستشفى وتفكيره نهبا للقلق الشديد...
لقد قرأ كل شيء في رد الطبيب الذي يعالج أباه...
لم يقل أنه على وشك النهاية...! بل قال: إن بدنه لم يعد يستجيب للعلاج...
- يا ميثم، يا ميثم...!
اقتحم نداء أبيه سمعه، لينتشله من عالمه الخاص ناسياً جلوس أبيه الى جانبه..
- أجل... أجل يا أبي...!
- توقف يا ولدي توقف...! قال الحاج داوود لاهثاً...
ركن ميثم السيارة على يمين الطريق، وقال:
- لماذا يا أبي؟!
قال الحاج برنة عتاب، وقد بدا يعاني صعوبة في التنفس...
- ألم تر – يا ولدي – أخاك في الدين... أو في الإنسانية يستغيث بك؟!
إلتفت ميثم الى الخلف، فرأى رجلاً يقف الى جانب سيارته، ملوحاً بعلبة بلاستيكية للسيارات المارة...
ابتسم الحاج رغم المعاناة، وقال:
- ((إرحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء))!
رد ميثم معتذراً:
- لم أنتبه إليه والله يا أبي...!
ترجل ميثم سريعاً، فتح حقيبة السيارة، اختطف علبة البنزين التي اعتاد أبوه الإحتفاظ بها لمثل هذه الحالات، وهرول باتجاه الرجل، ثم عاد بعد هنيهة الى مكانه لاهثاً خلف مقود السيارة...
ابتسم الحاج، وقال بأنفاس متلاحقة:
- ساعدك الله..! إعلم.. أيها العزيز... أن العمل الذي قمت به... وان كان صغيراً... فهو كبير عند الله..!
ألقى ميثم نظرة خاطفة على أبيه، قبل أن تتحرك السيارة بهدوء... أثارت فيه ملامح وجه أبيه المتقلصة، ذكرى تعود الى سنين خلت.
كان وقتها طالباً في آخر سنة من المرحلة الإعدادية... وكان برفقه أبيه ليوصله بسيارته الى حيث تجري الإمتحانات النهائية في مدرسة أخرى...
كان قلقاً من الإمتحان.. ويخشى أن لا يصل في الوقت المناسب.. ومع كل دقيقة تمر، يزداد توتره العصبي...
وفجأة مال أبوه بسيارته الى اليمين ليركنها... تعجب من فعل أبيه وسأل:
- لماذا توقفت يا أبي؟!
رد أبوه وهو يشير الى الخلف:
- ألم تر الرجل الذي كان يلوح لنا؟!... قال بانزعاج:
- أي رجل؟ لم يكن هناك أحد...!
أجاب أبوه مبتسماً، وهو يشير الى الرجل الذي أقبل نحوهما راكضاً:
- يا عزيزي... هذا الرجل الذي جاء اثرنا منادياً: أيا للمسلمين!
لم تأخذ العملية من الوقت سوى هنيهة، الا انه أحس أنه على وشك الإنفجار من الغيظ...
وعندما استأنفت السيارة سيرها... خاطب أباه معاتبا:
- هل أن ذلك يعني: أن مستقبلي لا يهمك بقدر ما يهمك هذا الرجل الغريب؟!
ضحك أبوه، وأجاب ملاطفاً:
- ما هذا الكلام يا رجل؟!.... لا زال أمامنا متسع من الوقت... دع عنك القلق... وسترى أن كل شيء يسير على ما يرام...!
ثم تنهد بعمق وقال:
- هل من الصحيح أن نفكر بأنفسنا فقط... ولا نحسب أي حساب للآخرين... من يدري؟ لعل الرجل ينقل مريضاً الى المستشفى... أو أنه طبيب يتعجل الوصول الى مرضاه، أو عشرات الحالات الحرجة الأخرى التي تتطلب العجلة..
وسكت قليلاً قبل أن يضيف:
- فهل ترى أن حضورك الإمتحان، أهم من حياة إنسان؟!
شعر حينها بالحياء الشديد، ولم يجد ما يعبر به غير القول:
- عذراً يا أبي!!
دخل الممرض غرفة الطبيب، وخاطبه بشيء من الإنفعال:
- أرجوك جناب الدكتور، أنا عجزت عن التفاهم مع هذا المريض.. إنه يرفض تقبل غالبية الخدمات لأمثاله من المصابين بالكيمياوي...
رد الطبيب، الذي بدت عليه المفاجأة:
- ومن هو هذا المريض؟!
نظر الممرض في الملف الذي بين يديه، وقال:
- إنه داوود كريمي...
اتسعت حدقتا الطبيب، وقال:
- الحاج داوود... عجباً...! إنه من خيرة المرضى أخلاقاً... ولكن لماذا؟!
رد الممرض بتبرم:
- إنه يقول: ينبغي تقديم هذه الخدمات، الى من هم أشد حاجة منه...!
تأمل الطبيب قليلاً، ثم تساءل:
- هل يرافقه أحد من أهله؟
- نعم إبنه...
- ادعوه الى هنا.
دخل ميثم غرفة الطبيب، ملقياً التحية، ثم تساءل:
- طلبتني يا دكتور؟!
- نعم... أعتقد انك تعلم بموقف أبيك، فماذا ترى؟!
ابتسم ميثم، وقال:
- لا يمكن حمل أبي على خلاف إيمانه وقناعاته.....
صمت قليلاً قبل أن يضيف:
- قد تستغرب إذا عرفت أنه رفض تقديم طلب لإفادتي من قانون إعفاء أبناء المقاتلين من الخدمة العسكرية...
تساءل الطبيب باستغراب:
- ولماذا؟!
- لأنه يرى أن المعاناة والتضحية، هما اللتان تبلوران صلابة الإنسان، وتصقلان شخصيته... وبغيرهما، يبقى الإنسان هشاً، فاقداً لمعرفة القيمة الحقيقية للحياة والأشياء.. كمن يبدد ثروة ورثها، لأنه لم يعان أو يجهد في سبيل تحصيلها..
ضحك الطبيب والمريض، وقال الطبيب:
- أجل والله نعم ما يقول!
لم يعد الحاج داوود بحاجة الى الأخذ والرد مع الأطباء أو الكادر الطبي.. فلقد كانت هذه المرة، خاتمة زياراته المتكررة للمستشفى.. من يدري... فلعله استشرف موعده القريب مع عالم الشهداء... حيث يسرح في ((ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.))