المجاهد الشهيد داوود كريمي
عنوان الحلقة: صاحب الدراجة الهوائية
مستلة من كتاب ( يك روز يك مرد) اي : رجل وموقف
تلقى تحية الحاج داوود الصباحية المعتادة، فأمسك عن العمل، ملوحاً بيده اليمين، وآخذاً بذراع مكنسته الطويل بالشمال...
مر الحاج على دراجته الهوائية، وابتسامة محببة تطبع ملامحه الراضية... فيما ظل عامل البلدية يلاحقه بعينيه، حتى اختفى بعد منعطف الشارع القريب...
لشد ما يحبه... لم ير إنساناً مثله في تواضعه وسماحته... وهل ينسى صباح أحد الأيام ، وقد تملكته الحيرة ، امام ركام كبير من الأوراق والصور الدعائية التي خلفتها الحملة الإنتخابية ، مبعثرة على امتداد الشارع...وبينما كان يرقب الموقف ، وصل الحاج على دراجته فألقى التحية... وأسند دراجته الى شجرة قريبة، ثم شمر عن ذراعيه وراح يجمع الأوراق...
تنهد... وأمسك مكنسته بكلتا يديه واستأنف العمل...
كان يرى الحاج باستمرار – قبل هذا الحادث – ويرد على تحيته، عندما يراه مقبلاً لافتتاح ورشة الخراطة التي يملكها... لكن لم يكن يعيره كبير اهتمام...
كان يمثل بالنسبة له لغزاً محيرا... من يكون هذا الرجل صاحب الدراجة الهوائية... ذو الظاهر البسيط... والذي ينكب على العمل في ورشته من الصباح الى أوائل المساء... حتى إذا ما عاد الى بيته، ضاق الزقاق – ليلاً – بالسيارات الفارهة التي يزوره أصحابها...
ولم يطل الأمر ليعرف أن الحاج يستقبل في بيته الصغير العديد من الشخصيات الكبيرة في البلاد... وبحل هذا الشطر من اللغز فإن شطره الآخر بقي غامضاً عصيا على الفهم...
أجابه أحدهم وقد سأله عن الحاج:
- ألا تعرف؟! إن الحاج داوود كريمي، أحد القادة العسكريين الكبار، قبل الحرب وأثناءها...
تساءل وقد أذهله هذا الإكتشاف:
- إذن لماذا اعتزل المسؤولية، ليشتغل بهذا العمل الشاق؟!
قلب الآخر يديه وهو يقول:
- هذا ما لا أدريه...
ولد الشهيد داوود كريمي في طهران عام ۱۹٤۷، وقد ذاق اليتم وكابد العناء منذ نعومة أضفاره... فقد توفي والده وله من العمر سبعة أعوام... واضطر الى التخلي عن المدرسة تحت إلحاح ضغط المعيشة... فلجأ الى ورشة خراطة يعمل فيها، وهو العمل الذي لازمه الى آخر أيام حياته...
كان الحاج داوود طيب النفس، رحيماً بالناس، يخفق قلبه لمعاناة الفقراء، ويستشعر آلام اليتم التي سبق له تجربة غصصها...
وفي ورشته الصغيرة، كان يعمل أربعة عمال كلهم أيتام، لم تكن حاجة العمل هي التي أتت بهم... وإنما عاطفة الحاج... بعد أن اطلع على عمق معاناتهم...
وفي أحد الأعياد... قدم لعماله هدية نقدية... حتى أن الفتى الصغير الذي التحق بالعمل قبل فترة قصيرة، نال ما ناله زملاؤه... ولم يبق للحاج وأسرته، غير ثلث ما أعطي للعامل الواحد... فحمله لزوجته خجلاً، طالباً منها أن تتدبر شؤون الأطفال به.
عمل قبل انتصار الثورة الإسلامية، في العمل الجهادي المسلح ضد النظام الملكي البائد... وانتمى بعد الإنتصار لقوات حرس الثورة..
ونظراً لسابقته الإيمانية والجهادية فقد عين قائداً لهذه القوات في طهران... ثم أصبح قائداً لها غربي البلاد.
وبعد العدوان الذي شنه النظام المقبور في العراق على الجمهورية الإسلامية نيابة عن الصهيونية والإستكبار العالمي، أصيب خلال القتال عدة مرات بالغازات الكيمياوية السامة... تلك الإصابات التي تركت ندوباً قاسية على صحته... ولم تسالمه يوماً، حتى أودت بحياته في النهاية...
كان الحاج يتهرب من القبول بالمواقع والمسؤوليات القيادية... وكان يعتبر أن الحاجة وحدها هي التي دعته للقبول بالمسؤولية بدءاً... فلقد كانت الثورة تعد لأولى خطوات إنطلاقها آنذاك... أما وبعد تجربة الحرب الضخمة التي امتدت ثمانية أعوام، فقد برزت شخصيات قيادية، نضجت بفعل المحك الميداني...
وكان يكرر القول: ان الجبهة وجدت قيادتها...
وعندما يلحون عليه للقبول بمسؤولية ما، يجيب... انه يعتقد أن من يقبل بتولي مسؤولية وهو يعلم من نفسه عدم جدارته بها... فهو خائن.
- بالله عليك يا حاج إلا ما حدثتنا عن الجبهة وذكرياتها...
اتسعت إبتسامة الحاج داوود، وهو يستمع لسؤال أحد زواره الذين غصت بهم غرفة الإستقبال الصغيرة في بيته...
كانت أحاديث الجبهة وأخوة الجهاد، الهواء الذي يتنفسه الحاج... رفع رأسه بعد إطراقة غير قصيرة، وقال:
- كان أحد مسؤولينا العسكريين، عاملاً في مستقبل حياته... وكان إخلاصه وذكائه قد رشحاه للتقدم في سلم المسؤوليات... فبلغ مراكز قيادية عالية...
أخذ الحاج رشفة من كوب الشاي الموضوع أمامه منذ فترة... ثم واصل:
- لا تسألوا عن إيمانه وأخلاقه... فلقد كان قمة من القمم...
إبتسم الحاج... ثم أطلق ضحكة قصيرة... ضحك الزوار مجارات له... قطع الحاج موجة الضحك وقال بشكل لا يخلو من حدة:
- لأي شيء تضحكون؟!... بهت بعض الحاضرين لهذه المفاجئة فيما واصل الآخرون – الذين يعرفون قفشات الحاج داوود – الضحك، وهم يقولون:
- ضحك؟!... أرأيت أحداً يضحك؟!... واصل الحاج:
- ... نعم... لقد فاجأنا صاحبنا يوماً وقد عاد من الإجازة، بشيء لا يمكن لكم أن تتصوروه، مهما حاولتم...
إلتفت الحاج يميناً وشمالاً قائلاً بين الجد والهزل:
- يمكنكم أن تجربوا... أن تختبروا ذكائكم...!
قال أحدهم:
- أنا أجيب... لقد جاءكم بقدر... قدر كبير... فلربما... قاطعه ثان:
- أنا أقول دراجة هوائية... ورد ثالث ورابع وتشابكت الأصوات الممزوجة بالضحك... فقاطعهم الحاج مبتسماً وهو يقول:
- لقد كان اختباراً سيئاً لمستوى ذكائكم للأسف...
تعالى الضحك مرة ثانية... مد الحاج يده لكوب الشاي، إلا أنه لم يأخذه... وبدا وكأن غمامة من الأسى قد اجتاحته فجأة... مد يده لعلبة المناديل الورقية، وتناول واحدة، وراح يجفف دمعتين كادتا أن تسبقه...
خيم الصمت على الجميع... فقد عرفوا أن الأمر خرج عن نطاق الهزل...
تعجب الحضور من هذا الإنتقال المفاجئ لدى الحاج من عالم الضحك الى عالم البكاء...
رفع الحاج رأسه، بعد أن بقي مطرقاً برهة من الزمن... وقال:
- أجل... لقد أحضر صاحبنا شيئاً غير متوقع أبداً... انها آلة يدوية تستخدم لنقل التراب من أعماق البئر – الى الخارج، أثناء عملية الحفر... آلة بسيطة، تتكون من بكرة خشبية كبيرة وحبل طويل ودلو... لا أكثر... أمسك الحاج عن الكلام قليلاً، ثم تابع:
- لقد أثار وجود تلك الآلة، عاصفة من التعليقات والمداعبات.
فقد اعتبرها أحدهم: وسيلة جيدة للتنقيب عن النفط، على الخط الأول للقتال... وقال آخر متهكماً:
- بل هي وسيلة ممتازة لحفر القبور لمن... قاطعه ثالث ليقول:
- لا تكونوا قساة الى هذا الحد... فربما كان لدى صاحبها تفسيراً مقبولاً...
ابتسم الأخ صاحب الآلة، وقال يجاري أجواء الدعابة:
- باعتبار اني كنت أعمل على هذه الآلة، فجئت بها من أجل التمرين، خشية من النسيان، وبالتالي فقدان أسرار المهنة...!
ألححنا بالسؤال عليه... ولم ينجح مسعاه لإبقاء الأمر في إطار الدعابة والمزاح... وأخيراً حملناه قسراً على الجواب... فقال:
- الحقيقة إنني أردت أن أكسر غروري بها... أردتها أن تكون ماثلة أمامي لأتذكر إنني لا زلت العامل الذي يكد من الصباح حتى المساء من أجل تأمين لقمة عيشه...
قال ذلك الحاج داوود، ثم انتحب باكياً...!