المجاهد الشهيد مصطفى شمران
عنوان هذه الحلقة: (إجعلوني في حل)
مستلة من الكتب: زبر الحديد، پاوه سرخ: أي باوة الحمراء
"وچمران مظلوم بود"، أي كان شمران مظلوماً
لم تكتف الحكومة الأمريكية بإغلاق جميع أبواب العمل بوجه شمران، بل اعتقلته... ثم اطلقت سراحه وأخذت تراقب نشاطاته السياسية... وتتدخل لمنع أي احتجاج أو تظاهر يقوم به الإيرانيون ضد نظام الشاه... فضلاً عن أنواع المضايقات التي راحت تمارسها ضد الطلاب أو الناشطين السياسيين الإيرانيين المقيمين.. فاضطر شمران الى مغادرة أمريكا نهائياً متجهاً الى لبنان... حيث وجد الى جنب أحد علمائها البارزين وأحد القادة المؤثرين في ساحتها السياسية السيد موسى الصدر، مناخاً مناسباً للعمل والجهاد من أجل الإسلام.
وصل شمران الى لبنان عام ۷۰ واستقر في الجنوب، ليدير المؤسسة التي كان السيد الصدر ينشأها باسم مؤسسة جبل عامل... وقد تحولت هذه المؤسسة الى مدرسة ومركز لتدريب شباب الجنوب على حمل السلاح بوجه الغطرسة الصهيونية... وانتهاكاتها المستمرة لمناطق الجنوب واحتلالها لأخرى...
وبأمر من السيد الصدر، وجهود رجال الجنوب ومساعدة شمران تم تأسيس حركة أمل، لتتبن الدفاع عن حقوق أتباع أهل البيت (ع) الذين كانوا يعيشون وسط الوضع الطائفي المعقد آنذاك في لبنان: حرمان وإهمال الحكومة من جانب، وتهديدات وتحرشات الإحتلال من جانب آخر.
في نفس العام الذي هاجر فيه شمران الى لبنان، بدأت هجرة الفلسطينيين باتجاه لبنان... فأخذت الأحزاب المارونية تتآمر من أجل إخراجهم.
إلا أن الصدر وقف بثبات يذب عن المسلمين الفلسطينيين ويسعى الى توحيد الصف بوجه الإحتلال الصهيوني.
وقوف الصدر وسط اللهيب شامخاً... وخطاباته التي قرأها الأعداء كرسائل تحذيرية: (إن الثورة الفلسطينية شعلة مقدسة، نصونها بأرواحنا وقلوبنا وسواعدنا..) جعلتهم لا يطيقوا وجوده، بل ويعملوا على إسكاته فاختطفوه عام ۷۸.
وتلاحقت الأحداث السياسية، فبعد اختطاف الصدر بشهور، انتصرت الثورة الإسلامية في ايران...
فزارها شمران بصحبة قادة المقاومة اللبنانية... وكان ينوي العودة الى بيروت.. إلا أن قائد الثورة الإمام الخميني – رضوان الله عليه – طلب منه البقاء...
وقد تم تكليفه بمسؤولية نائب رئيس الوزراء لشؤون الثورة... ويبدو أن هذا التكليف كان يستشرف طبيعة العقبات التي سيقيمها الأعداء بوجه الثورة... وبالفعل.. فقد نجحوا في إثارة القلائل في بعض نقاط البلاد... بينها كردستان، فذهب شمران إليها كممثل للحكومة... غير أنه اضطر لدخول ساحة الصراع كمقاتل وقائد ميداني...!
وبعودة الأوضاع هناك الى سابق عهدها، عاد الى طهران ليشارك في مهرجانها الإنتخابي الأول لإختيار أعضاء البرلمان كممثل لأهالي طهران...
ولم يمر طويل وقت حتى اندلعت الحرب، فتولى حقيبة الدفاع... أجل... أصبح شمران وزيراً... لكن من يعرف شمران لا يطلبه في مقر الوزارة، بل على أرض جنوب ايران الساخنة، حيث شكل أفواج الحرب غير المنظمة، وتولى قيادتها...
وقد نجحت هذه الأفواج في الحد من تقدم القوات البعثية داخل الأراضي الإيرانية...
وفي ۲۱ من حزيران عام ۸۱، وفيما كان يقوم بإحدى جولاته لمتابعة أداء قواته، في منطقة الدهلاوية في محافظة خوزستان، إنفجرت قذيفة بالقرب منه لينال الوسام الذي جاهد من أجله طويلاً.
عندما تتردد كلمة الدكتور بينهم... فهي تمثل معنى واحداً لا غير: إنها مصطفى شمران... ولا تتوقع أن الكلمة تقال هكذا وبشكل إعتيادي... بل، انها تحاط بهالة من الحب المفرط والإحترام المبالغ فيه والتفخيم المثير... فليست هي علاقة عادية، تلك التي تربطه بتلاميذه في مدرسة جبل عامل.
يكفي أن يروا شمران حتى يحيطوا به ويمطروه بقبلاتهم... هذه اللقطة أثارت أحد مرافقيه مرة، فقال:
- لدينا من العمل ما يكفي... والوقت أمامنا ضيق...
فلم يلتفت إليه شمران... وواصل إقباله على طلابه يلاعبهم ويلاطفهم..!
وبعد مضي بعض الوقت، عاد المرافق ليقول:
- لماذا نضيع الوقت هنا؟!... فالتفت اليه شمران وقال:
- كل عملي ومهمتي في الحياة، هي رعاية هؤلاء الأولاد.. حاول أن لا تنسى ذلك ما دمنا معاً...!!
وحل يوم العيد... وكان عليه أن يزور أهل زوجته، أخذاً بالتقاليد الجارية في لبنان... وكانت تنتظره وجبة دسمة أعدتها له عمته... إلا أنه لم يحفل بكل ذلك لأن من بين تلاميذه، عدداً كبيراً من الأيتام... وهؤلاء كانوا مضطرين للبقاء في المدرسة، بخلاف زملائهم الآخرين الذين غادروها لقضاء العيد الى جانب أسرهم...
قالت له زوجته دون أن تستطيع إخفاء إمتعاضها من عدم زيارته أهلها:
- بودي أن أعرف لماذا لم تأت؟!
إبتسم مصطفى، وقال بصوت فيه نبرة إعتذار:
- بعد بقاء هؤلاء الأيتام وحيدين، فضلت أن أبقى الى جانبهم... أتناول الطعام معهم... أحاول الترفيه عنهم... أجد لهم ما أشغلهم به...
عادت الزوجة لتتسائل:
- ولماذا تعشيت جبناً وخبزاً، وها هو الطعام الذي أرسلناه إليك على حاله؟!
رد مصطفى:
- لأن الأولاد لم يكن لديهم غير الجبن والخبز!
- لقد عدت الى البيت متأخراً... وكان بإمكانك أن تتناول طعامك... فالأولاد لن يروك هنا...!
نظر اليها مصطفى قليلاً، قبل أن تذرف عيناه دمعتين وهو يقول:
- ولكن الله يرى!!
اتسعت مؤسسة جبل عامل التي كانت مخصصة للأولاد... لتشمل مدينة الزهراء، التي بنيت لاحقاً كمدرسة للبنات.
وكان شمران متجهاً يومها الى المدرسة على الطريق الساحلي الرئيس، المار من بيروت الى الجنوب... وعلى مقربة من المدرسة، توقفت سيارته خلف عشرات السيارات فراودته الشكوك باحتمال وقوع حادث ما في المدرسة فتساءل:
- ما الذي حصل؟!... فقيل له:
- إن شباب المؤسسة قطعوا الطريق لتمر سيارتك..!
إحمر وجه شمران، وأطرق وهو يقول:
- الويل لي!! وأضاف:
- إذا لم يصفح الناس عيني، فماذا سيكون موقفي بين يدي الله؟!
ترجل من السيارة مسرعاً... وأقبل على السيارات المتوقفة واحدة واحدة، مخاطباً أصحابها:
- أعتذر لكم... يبدو أننا تسببنا في هذا التأخير... فلتصفحوا عنا...!
وراح يكرر: أرجو أن تجعلونا في حل...!
ومثلما اتسعت مؤسسة جبل عامل، تجذرت... وأصبح لها دور ريادي في الجنوب... خصوصاً بعد المواجهة البطولية لأحد طلابها مع قوة عسكرية صهيونية، اقتحمت قرية طيبة بالقرب من الحدود اللبنانية - الفلسطينية... فقد حاولت هذه القوة مداهمة منزل الطالب البطل فلاح شرف الدين... فوقف أبواه يصدان جنود الإحتلال عن دخول دارهما... فأقدم الصهاينة الجناة على قتل الرجل وزوجته على عتبة باب الدار...
فأمسك فلاح ببندقية أبيه، وتحصن بغرفته، وراح يطلق النار على جنود العدو من النافذة... فنجح في قتل سبعة منهم... وتخاذل بنو صهيون عن مواجهته... فلم يجدوا سبيلاً غير تفجير المنزل على من فيه!!
التحقيقات الصهيونية التي كشفت فيما بعد؛ ذكرت أن عالماً فيزياوياً يدير المدرسة التي درس فيها فلاح... كان يدرب تلاميذه على المقاومة الى جانب تدريسهم المبادئ الإسلامية وعلمي الفيزياء والرياضيات...
وبعد أيام، بدأ الأهالي يتسلمون تحذيرات صهيونية بهدم دورهم، إذا ما أبقوا على أبنائهم في مؤسسة جبل عامل... وهكذا أصبحت المعركة غير المعلنة بين الطرفين جبهة مفتوحة...!
أجل... لقد رحل شمران... ومن قبله شرف الدين الى بارئهما، لكنهما غرسا في أرض الجنوب... بذور المستقبل الواعد التي أنبتت رجالاً مقاومبن استطاعوا أن ينزلوا بالصهاينة، أول هزيمة لهم في تاريخهم المعاصر...!!