بسم الله وله الحمد والثناء قابل التوب غافر الذنب أرحم الراحمين.
وأطيب صلواته وتحياته وبركاته على صفوته المنتجبين عروته الوثقى وحبله المتين محمد وآله الطاهرين.
السلام عليكم أحباءنا، أجمع عرفاء مدرسة الثقلين على أن التوبة النصوح هي من أسلحة المؤمن في سيره وسلوكه الى الله جل جلاله فما هي حقيقة التوبة وما هي شروطها؟ الأجابة عن هذا السؤال هي محور حلقة اليوم من هذا البرنامج، تابعونا على بركة الله.
مستمعينا الأفاضل، نقتبس الإجابة عن السؤال المتقدم من بحث قيم لأحد أعلام المحققين في حوزة النجف الأشرف في القرن الهجري الرابع عشر هو المرجع الديني الزاهد آية الله الشيخ ضياء العراقي، قال – رضوان الله تعالى – في كتابه التحقيق الفقهي القيم (شرح تبصرة المتعلمين):
التوبة هي الأوبة وهو الرجوع إلى الشيء بعد الانفصال عنه. والتائب إلى الله عائد إليه للوصل بعد الفصل عنه بارتكاب الذنب. ان بين الله وبين عبده حبلا ممدودا، طرف منه موثوق بساحة عنايته تعالى، وطرفه الآخر مشدود برقبة العبد، وهو حبل الطاعة والعبودية من طرف العبد، وحبل اللطف والعناية من طرفه تعالى. فإذا ارتكب العبد ذنبا فقد قطع حبل عبوديته وطاعته، ومن ثمّ يستحق قطع عنايته تعالى عنه. ثمّ إذا عاد العبد ضارعا منيبا اليه تعالى، عاد تعالى عليه باللطف والعناية. قال عزوجل: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً". (سورة النساء: الاية السابعة عشرة) وقال: "فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ..."(سورة المائدة:الاية التاسعة والثلاثون). ومن ثمّ تتعدى ((التوبة)) من العبد إلى الله بحرف الغاية ((إلى)) ومن الله بالنسبة إلى العبد بحرف الاستعلاء ((على)) لتضمّن التوبة المنسوبة إليه تعالى معنى اللطف والعناية، اما المنسوبة إلى العبد فباقيه على معناها الأصلي اللغوي: الرجوع. قال الامام الصادق (ع) في مصباح الشريعة: "التوبة حبل الله ومدد عنايته".
وبعد بيان هذه الحقيقة وكون التوبة هي حبل الوصل وحفظ الإتصال بالله عزوجل يقول آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره عن حقيقتها:
التوبة- في حقيقتها- هو ذلك التذكر القلبي الحاصل بعد الإنذهال، العبد يرتكب ذنبا بجهالة ثمّ يعود من قريب فيندم على ما فرط منه في معصية ربه الكريم. وهذا من علائم الايمان، قال الصادق (ع): "من سرته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن". وقال: "ان الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة. قيل له: أيدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: نعم، انه يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه الله فيدخله الجنة". وقال الامام علي(ع): "ان الندم على الشر يدعو إلى تركه". وقال الصادق- أيضا -: "ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه، الا غفر الله له قبل ان يستغفر. وما من عبد أنعم الله عليه فعرف انها من عند الله، الا غفرالله له قبل ان يحمده". وقال أبو جعفر الباقر(ع):"كفى بالندم توبة" وذلك ان الندم دليل على وجود تلك النقطة الإيمانية المرتكزة في القلب، وهو مبدء الحركة إلى الله عن صدق وإخلاص، وانقلاع عن الشر الذي ارتكبه. قال تعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً". (سورة النساء: الاية السابعة عشرة). وفسرت هذه التوبة القريبة بالتذكر كما في آية أخرى: " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (سورة الأعراف: الايه مائتان وواحدة). وقال: " وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ..." (سورة آل عمران: الاية المائة والخامسة والثلاثون). وهذا معنى قوله تعالى:"فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (سورة المائدة الاية ۳۹). و قوله: "...كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (سورة الانعام :الاية الرابعة والخمسون).
ويتابع آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي بيانه لشروط تحقق التوبة النصوح قائلاً:
إذن فالتذكر هي التوبة، والتوبة هو التذكر، تعبيران عن معنى واحد، وعن منشأ واحد هو الايمان الراسخ في القلب، الباعث على هذا الانزجار النفسي اثر ارتكاب الذنب والندم السريع ثمّ العزم الجازم على الانقلاع عن مخائل الشيطان، والرجوع إلى رضوان الله تعالى الفسيح. اذن فالتوبة هي حركة إنطلاقية إلى النور. حاصلة بعد وقفة تيقظية كانت مبدأ هذا الانطلاق. العبد عند ارتكاب الذنب كان قد أخذ في اتجاه معاكس لفطرته، فيذكره إيمانه انها حركة تقهقر إلى الوراء، من النور إلى الظلمات، فسرعان ما يتذكر ويندم على هذا الذهول، ومن ثمّ يعود مستغفرا منيبا اليه تعالى ليخرجه من الظلمات إلى النور، ويعود عليه بلطفه وعنايته. فكانت توبة العبد إلى الله بنفس معنى توبة الله على العبد، عاد إلى الطاعة فعاد عليه باللطف. من تاب تاب الله عليه. والخلاصة: ان التوبة وان كانت في مبدئها نقطة ندم حاصلة في النفس، لكنها منشأ حركة تجسيدية تحققية من قصد إلى عمل. ومجموع هذه الحركة من المبدا إلى المنتهى يشكل حقيقة التوبة.
كانت هذه مستمعينا الأفاضل توضيحات المرجع الديني الزاهد والعلامة المحقق آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي لحقيقة التوبة وشروط تحققها أوردها – رضوان الله عليه- في كتابه الفقهي (شرح تبصرة المتعلمين).
وقد نقلناها لكم في حلقة اليوم من برنامجكم (الطريق الى الله) إستمعتم له مشكورين من إذاعة طهران، دمتم بكل خير وفي أمان الله.