ومن مفاخر الصادقين ورجالات اهل البيت الاوائل هو التابعي والعالم الكبير سعيد بن جبير الاسدي الكوفي رحمة الله عليه.

هذا الفقيه الكبير والعالم الواعي والمفسر للقرآن خلده الدهر لعلمه وولاءه وتفانيه في خط ولاء اهل البيت، وجاء في رجال الكشي عن الفضل بن شاذان قوله ان سعيد بن جبير احد خمسة اشخاص وقفوا مع الامام السجاد (عليه السلام) بعد واقعة كربلاء، بعد واقعة الطف تصور الكل بأن اسلام اهل البيت، اسلام علي وال علي انتهى بعد تلك الابادة العارمة الجماعية لأهل البيت ورجع الامام السجاد وهو البقية الباقية، لما رجع الى المدينة يتلفت يميناً ويساراً، ظن الكل في حساباتهم ان اسلام اهل البيت وهو الاسلام الاصيل قد انتهى وبقي اسلام معاوية وبني امية ومن هذا القبيل فما كان احداً الا خمسة فقط وينصون على اسمائهم وواحد من هؤلاء الخمسة هو سعيد بن جبير الاسدي الكوفي رحمه الله، هؤلاء الخمسة بقوا مع الامام زين العابدين.

سعيد بن جبير اشتهر بعلمه الذي اخذه من الامام زين العابدين (سلام الله عليه) طبعاً هو اخذ علوم القرآن من ابن عباس حبر الامة وهو اصبح هدفاً للحجاج بن يوسف الثقفي على هذا الاساس بأنه تلميذ الامام السجاد اولاً وناشر علوم اهل البيت.

المترجمون له يقولون في زمانه لم يكن احداً على وجه الارض الا واحتاج لعلم سعيد بن جبير، كان يوصف انه جهبذ العلماء.

سعيد بن جبير هو من الرواة لفضائل الامام علي (سلام الله عليه) وطبعاً هذا شدد من نقمة الامويين عليه، الشيخ الصدوق رضوان الله عليه في كتابه معاني الاخبار يروي فضيلة للامام علي سندها سعيد بن جبير وهذه الفضيلة يرويها سعيد بن جبير عن عائشة زوجة الرسول (صلى الله عليه واله)، قالت: كنت عند رسول الله فأقبل علي عليه الصلاة والسلام.

فقال النبي: هذا سيد العرب.

فقلت يعني عائشة تقول، فقلت: يا رسول الله الست انت سيد العرب؟

قال: لا انا سيد ولد آدم وعلي بن ابي طالب سيد العرب.

سعيد بن جبير كان صلباً في ايمانه وحبه للائمة وبالخصوص للامام امير المؤمنين، اخيراً جمعته الصدفة بالحجاج فقال له الحجاج ناقماً ساخطاً أأنت تنسب الحسن والحسين لرسول الله؟

قال: نعم، انا لا انسبهم بل الله نسبهم، فتفجر الحجاج حقداً وقال كيف؟ فقرأ سعيد بن جبير هذه الايات، 84 و85 من سورة الانعام، قوله تعالى: « وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ».

ثم قال: كيف نسب عيسى الى ابراهيم النبي وعيسى ليس له اب؟

فقال الحجاج: بسبب امه مريم.

فقال سعيد: هكذا الحسن والحسين ابناء النبي عن طريق ابنته فاطمة فكم فم الحجاج ولكنه بقي يتربص الدوائر وينتهز الفرص حتى او عز لعامله على مكة وهو خالد القسري ان يقبض على سعيد بن جبير واخيراً قبض عليه وهو داخل الحرم المكي الشريف في البيت الحرام، لهذا هناك مناقشة بين الامام الصادق وابو حنيفة، الامام يقول لأبو حنيفة اخبرني عن معنى قوله: «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا» اي موضع هو؟

قال ابو حنيفة: هذا بيت الله الحرام.

فقال الامام: ناشدتك الله، تعلم ان سعيد بن جبير دخله فلم يأمن من القتل وقبض عليه عامل الحجاج في البيت وبعدها قتله، سكت ابو حنيفة ثم قال اعفني يابن رسول الله.

فلما احضر بعد ما قبض عليه في البيت الحرام، احضر بين يدي الحجاج تنكر له، قال: ما اسمك؟

قال: سعيد بن جبير.

قال: بل شقي بن كسير.

فقال: ان امي اعرف بأسمي وهي التي سمتني.

فقال الحجاج: شقيت وشقيت امك.

فقال سعيد: ذاك امر يعلمه غيرك، وهنا يقول له الحجاج وهو في صرعة الغطرسة والغرور.

يقول لسعيد: لألينك ناراً تلظى.

فقال سعيد: لو علمت ان ذلك بيدك لأتختك الهاً.

بعد ذلك يقول له: ما رأيك بفلان وفلان؟ هما في الجنة ام في النار؟

فقال سعيد: انا لم ادخل الجنة ولم ادخل النار لأعرف من فيهما.

ثم قال: يا سعيد ما رأيك بالخلفاء وايهم احب اليك؟

قال سعيد: احبهم الي ارضاهم لخالقي.

اخيراً والمجلس حاشد والحضار كثيرين والاعناق مشرأبة انه كيف يتمتع هذا الرجل بهذه الشجاعة والنفسية العالية فمن جملة ما يقول الحجاج: اختر اي قتلة تحب ان اقتلك؟

فقال سعيد: اختر انت ذلك لنفسك لأنك لاتقتلني الا قتلتك قتلة بمثلها.

فصاح الحجاج: والله لأقطعن اعضاءك.

فرد سعيد قائلاً: تفسد علي دنياي وافسد عليك آخرتك.

واقعاً هذه هي عمق الحكمة اذا فسدت الدنيا غير مهم لأنها فاسدة وبالية لكن فساد الاخرة بأعتبار البقاء هناك والدوام هناك، الخسارة في فساد الاخرة، قال: تفسد علي دنياي وافسد عليك آخرتك.

فضحك الحجاج وانبرى سعيد وهو يقول: ما اجرأك على الله وما اشد حلم الله عليك، فأحضر الحجاج الجلاد والنطع، النطع ثوب يلبسوه للقتيل لكي تجمع الدماء فيه، البسوه النطع وطرحوه ارضاً فقرأ سعيد هذه الاية «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

قال الحجاج: حولوه عكس القبلة، فقرأ «فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ».

فقال الحجاج: كبوه على وجهه، فلما كبوه قرأ هذه الاية «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى» وهنا قطع رأس هذا العالم الشهيد الكبير والفقيه المبجل، فقطع رأسه وكبر ثلاثاُ بعد انفصال رأسه عن جسده لذلك يقال: انه الرأس الثالث الذي نطق بعد انفصاله عن الجسد، الحجاج اصيب بمرض نفسي بعد هذا الحدث فكان لا يقر له قرار، لا ينام ويصعق عند منامه فيهتز ويصرخ قيودنا قيودنا، كان يتضجر ويضطرب وينادي مالي ولسعيد قتلته بلا ذنب وبعد هذا الحادث لم يمكث الحجاج الا اسبوعين فقط، كان يرتجف واحيط جسده بالنار وهو يصرخ حتى هلك.

استشهاد سعيد بن جبير على يد الحجاج بن ابي يوسف الثقفي كان عام 95 هجرية ودفن سراً في منطقة واسط بالعراق، دفنه مجموعة من الموالين واشاد قبره ببناء ضخم التاجر الايراني كنعان آغا في القرن الحادي عشر الهجري وبعد ذلك خرب على يد الوهابيين والنواصب فأعاد بناءه مجموعة من التجار العراقيين تحت اشراف السيد الحكيم رضوان الله تعالى عليه.