الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ومن اساطين الصادقين خطابة وشعراً وقلماً وجهاداً في خدمة اهل البيت هو العالم والخطيب الشيخ محمد علي اليعقوبي النجفي طاب ثراه وهو من مواليد النجف الاشرف في شهر رمضان المبارك عام 1313 هجرية، انتقل مع والده الى الحلة الفيحاء عاشر شعراء فطاحل كأبي المحاسن الحائري وغيره ودرس المقدمات والسطوح على ايدي العلماء الكبار ثم عاد الى النجف الاشرف ليمارس الخطابة وكان محبوب الروح دمث الطبع حماسي العقيدة شجاع غير مبال وقد لعب دوراً سياسياً في تحرير العراق واستقلاله ابان حركة رشيد علي الكيلاني وكان يردد بيته المشهور:
بالشعب قد عاثت يد عادية
فجددوها نهضة ثانية
ويجدر ان اذكر انه كان يسكن لفترة في مدينة الحيرة وهي تبعد عن النجف الاشرف عشرين كيلومتراً ثم عاد الى النجف لطلب خاص من السيد ابي الحسن الاصفهاني وذلك لخلو الساحة من خطيب متناسب بشأن مدينة النجف وخصوصاً بعد ما حرم المرحوم السيد ابو الحسن الاصفهاني قراءة السيد صالح الحلي والاستماع اليه والحضور لمجالسه فأنتقل المرحوم اليعقوبي الى النجف وصار يرقى المنابر خطيباً ذا افق جديد محلقاً في اجواء الخطابة واقول انا كنت ارقى المنبر تلميذاً له لفترة وجيزة قبل ان يمرض ويقعده الكبر فكانت واقعاً مجالس من العظمة بمكان في بيت المرحوم السيد محسن الحكيم والسيد علي بحر العلوم والسيد حسن آل زيني والسيد هاشم الطرف وتأثرت بقوة ملكته الخطابية فقد لاحظته انه على خلاف السلف من الخطباء الذين عرفوا بتحضيرهم للخطابه والموضوع وربما يستغرق ذلك ساعات لتوفير المادة التي ستبحث اما المرحوم اليعقوبي فقد جربته انه يرقى المنبر ويسترسل بأنسياب دون سابق تحضير واتذكر تماماً عند ما كنت اقرأ المقدمة قبله واختتم المقدمة ببيت من القريض واذا به عندما يرقى المنبر يكمل نفس البيت ويسترسل معلقاً لمدة ساعة بقصص وشواهد وتحاليل يمتلك فيها مشاعر المستمعين من مختلف الطبقات علماً بأنه لم اتفق معه من قبل على ما سأقرأه وتكرر هذا معه مرات وكرات وهنا اذكر هذه الحادثة الغريبة وهي ترجمت قوة جأشه ورباطة اعصابه وسيطرته على المنبر فكنت اقرأ معه عام 1378 هجرية المقدمة امامه في الحيرة في ديوان كبير وواسع للسيد علي زوين من شخصيات العراق وكان المجلس يغص بآلاف المستمعين من مدينة الحيرة والنجف الاشرف والديوانية وابي صخير وكان خلف الجدار بستان فالقى منها ثعلب في وسط المجلس اثناء قراءة الشيخ اليعقوبي وهو علي المنبر وطبعاً كانوا الشيوعيون وراء ذلك نظراً لموقفهم المناهض من العلماء والخطباء ولما سقط هذا الحيوان تبعثر المجلس وتشتت الا ان المرحوم اليعقوبي بقي مرابطاً على المنبر واستطاع بحكمته ان يعيد الى المجلس انضباطه واستمر بأكمال موضوعه وهنا ايضاً اذكر اني كنت قد قرأت المقدمة قبله واختتمت القراءة بهذا البيت:
خضبوا وما شابوا وكان خضابهم
بدم من الاوداج لا الحناء
فرقى المرحوم اليعقوبي المنبر واعاد البيت هذا وشرع يتحدث عن الخضاب واستشهد بكلمة للامام امير المؤمنين سلام الله عليه الا وان خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء وراح يذكر في ذلك القصص والشواهد والتعاليل والعقول منشدة اليه ساعة كاملة رغم ما حدث من عبث العاثبين في المجلس وهو بكل برودة اكمل المجلس وكانت هذه حادثة ملفتة اعطت انطباع عن مدى سيطرته ومدى استعداده وملكته اقول كنت اتردد على هذا العالم المجاهد وانا في مقتبل العمر انما على انفراد او مع استاذي الخطيب الشهيد السيد جواد الشبر ايام الخميس من كل اسبوع حيث كان عنده ندوة ادبية وكنت احس بأنني في اكادمية ونادراً ما كنت اخرج خالي اليدين بل بالعكس استفيد القصة والمعلومة ومقاطع من الادب والحكم، اما على مستوى التأليف والقلم للمرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي اثار كبيرة ومهمة طبع ونشر منها خمسة عشر وهناك ربما بعددها او اكثر مخطوطة ومما طبع له ديوانه الصغير لكن هو غير صغير في الواقع بالمضمون كبير اسمه الذخائر وفيه من اروع قصائده في المعصومين الاربعة عشر صلوات الله وسلامه عليهم وسمعت منه انه اوصى بأن يدفن ديوانه هذا معه في كفنه وكان قد نظم بيتين وطبعهما على كتابه هذا والبيتان كثيراً ما اردد هما على المنابر وهما:
سرائرود للبني ورهطه
بقلبي ستبدو يوم تبلى السرائر
وعندي مما قلت فيهم ذخائر
ستنفعني في يوم تفنى الذخائر
اما مودته وصلته بآل البيت فقد كانت طافحة على لسانه وادبه واتذكر حينما اجريت له عملية جراحية لعينه في بغداد فقد زرته مع الخطيب الشهيد السيد جواد شبر ووجدناه حزيناً كئيباً لعدم تمكنه من زيارة امير المؤمنين لان المناسبة كانت ايام عيد الغدير فكان وهو مسجع على الفراش ينظم ويقول:
ابا حسن عذراً اذا كنت لم اطق
زيارة مثواك الكريم مع الناس
ولولا اذى عيني وراسي لساقني
اليك الولا سعياً على العين والرأس
ويقول في مناسبة اخرى في هذا الاطار:
قالوا نرى الايام قد ادبرت
عنك وزادت في تجنيها
فقلت حبي لبني المصطفى
خير من الدنيا وما فيها
وللمرحوم اليعقوبي مكتبة خاصة لا بأس بها وتضم كفوزاً من الكتب الاثرية القديمة اضافة الى تراثه المخطوط وكم كان الجميع يتمنى ان ترتب وتفتح للجميع كأثر خالد للمرحوم اليعقوبي اما اشعاره الوطنية او في المناسبات السياسية فهذا العالم المجاهد اشتهر بمقارعة الحكام وقراراتهم الجائرة واذكر له هنا بيتين كان يردد هما ايام وزارة طاهر يحيى وكان الفساد قد استشرا في الادارات في العراق وكانت الحكومة انذاك تشن حملة على اسراب الجراد الذي هدد الزرع فقال اليعقوبي منكتاً:
الا قل للوزارة وهي تبغي
مكافحة الجراد من البلاد
فهل لا كافحت في الحكم قوماً
اضر على البلاد من الجراد
وفي هذا المسار اذكر له بيتين في الرئيس العراقي عبدالسلام عارف وكان الاخير قد عاد لتوه من العمرة ثم سافر الى موسكو وزار قبر لينين ووضع عليه اكليلاً من الزهور فقال اليعقوبي رحمه الله:
بالامس كنت ببيت الله معتمراً
ترمي الجمار على مأوى الشياطين
واليوم ترمي اكاليل الزهور على
ضريح قبر بنوه فوق لينين
اجمالاً بعد اثنين وسبعين عاماً قضاها في المنبر والتأليف والنظم سكت لسانه وانطقأت تلك الشمعة الوهاجة فقد ودع الحياة في جمادي الثانية عام 1385 هجرية بعد ان ربى اكثر من خمسين خطيباً من تلاميذه وقدمهم كخطباء للمدرسة الاسلامية وللمجالس الحسينية ووري الثرى في النجف الاشرف في مقبرته الخاصة واقيمت له الفواتح في كل ارجاء العراق وخارجه وفي مناسبة اربعينيته اقيم له احتفال كبير في مسجد الهندي في النجف الاشراف والقيت فيه القصائد لشعراء من العراق ولبنان ومنهم السيد محمود الحبوبي رحمه الله اذ رثاه بقصيدة رائعة وذكر فيها تأثيره وجهاده وتأثير منبر الفقيد وشعره على اعداء الاسلام واهل البيت ويصفهم ويقول:
فالله بات طريداً في ضمائرهم
وبات مروان معبوداً او الحكم
يعني يصف اعداء اهل البيت ويصف اعداء الاسلام ومدى انفعالهم بجهاد هؤلاء العلماء ومنهم اليعقوبي.
تغمد الله هذا العالم المجاهد الشيخ محمد علي اليعقوبي بواسع رحمته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******