حيث تحاول مواصلة الرحلة في الجذور التي نبت منها العلم التجريبي في الحياة الغربية تلك الجذور التي ظهرت اثارها في النتاجات العلمية والعقلية التي سيطرت على اوربا في مراحل تطورها منذ عصر النهضة او ما يعرف بأسم الرنسانز، ولا ريب ان النهضة الغربية الحديثة قد استمدت غير قليل من عناصرها مما فاضت به عبقرية المسلمين العلمية خلال القرون عن طريق الاتصال بوسائل شتى.
والواقع ان الاتجاه العلمي قد اعلا من شأن المادة والعقل واعرض عن الجوانب الاخرى في الحياة الانسانية فأنكر الغيب والنبوة والدين، من هنا قامت فرضيات نشوء المجتمع على اساس مادي منفصل تماماً عن القيم الدينية ورسالات السماء، وقد قرر العلماء ان العلم انما يقدم مجموعة من الفرضيات الظنية لتفسير الطبيعة وان هذه الفرضيات تتحول بالتجربة الى قوانين، كما قرر العلماء ان العلم لا يفسر شيئاً بل وظيفته الربط والتنسيق والملاحظة المنهجية ومن ثم هو اي العلم يصف ويقرر وهذا ليس فهماً للاشياء ولكنه تعرف عليها، ويقرر العلماء ايضاً ان العلمية تقتصر على الظواهر الطبيعية وعلى اعمال البشر وعلاقاتهم التي يمكن ان تستخدم المشاهد والتجربة لاكتشاف قوانينها. ومن هنا وصل العلم الى تقرير ان العقل البشري لا يستطيع ان يدرك شيئاً الا عن طريق الحواس ولذلك فكل ما يقع وراء الحس والعقل فلا يمكن للعلم ان يبحث فيه او ان يعرف عنه شيئاً، وتقرر كذلك ان حقائق العلم كانت مطلقة ولا ابدية بل هي تحكي الحقيقة النسبية.
اجل، ما يزال البحث العلمي في الغرب ينظر الى العلاقة بين الانسان والطبيعة على انها علاقة صراع وليست علاقة تعارف واكتشاف وتسخير، وهذا البحث يرى انه كلما ازداد الانسان معرفة بالقوانين الطبيعية ازدادت سيطرته عليها وما يزال العلماء يتسائلون، هل يستطيع العقل ان يدرك الحقيقة؟
لقد قطع اشواطاً بعيدة خلال ثلاثمئة سنة فهل استطاع الوصول الى الحقيقة؟
وعلى الرغم من تقدم العلم فأنه عجز عن حل المشاكل الكبرى المتمثلة في اصول الكون ونهايته وطبيعة المادة ومنشأ الحياة وخلود الروح وسواها من القضايا الحيوية الملحة على العقل البشري. يقول مارتين ستانلي ان نتائج العلوم تبدأ بالاحتمالات وتنتهي بالاحتمالات وليس باليقين، معنى هذا ان نتائج العلوم تقريبية وهي عرضة للاخطاء في القياس والمقارنات ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالاضافة والحذف، وقد اضطر العلم منذ اجيال ان يترك البحث في كنه الاشياء بعد ان تبين له ان لا سبيل الى معرفة الكنه المغيب عن الحواس والاكتفاء بدراسة الظواهر.
لا ريب ان لغلبة المادية الصرفة على العلم ولاتصاله عن الروح ولتجاهله الدين والوحي ورسالة السماء التي قدمت للانسان عالم ما وراء المادة بوضوح تام لا ريب ان لكل هذا اثره في عزف العلم عن فهم كنه الاشياء ووقوفه عند المحسوس وحده، يقول ارنست ان كل الجهود التي بذلت في الحصول على المادة الحية قد باءت بالفشل والخذلان الكبير ومع ذلك فمن ينكر وجود الله سبحانه وتعالى لا يستطيع ان يقيم الدليل المباشر المتطلع الى العالم الى ان مجرد تجمع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة ان يؤدي الى ظهور الحياة واستمرارها وتوجيهها بالصورة التي نشاهدها في الخلايا الحية.
لقد هاجم روجر بيكون ومن بعد ديكارت المنطق الارسطي وما يضفي اليه من اعتماد العلم على طريقة القياس وقال انه ينبغي ان نعتمد قبل كل شيء على التجربة، وكان المنهج العلمي الصحيح هو الذي يجمع بين التجربة والقياس اي بين الاستقراء القائم على التجارب وبين القياس المحكم واطلق على هذا المنطق الحديث، ولم يكن هذا الجمع في الحقيقة الى ما دعا اليه البيروني وابن الهيثم وجابر بن حيان من علماء المسلمين، ثم جاء مفكرو الغرب من بعد ذلك يعلنون ان المنطق الارسطي قد انتهى زمنه وحل بدلاً عنه المنهج العلمي الذي يعتمد دراسة الظواهر ورصدها مع الجمع بين التفكير النظري وبين الملاحظة والتجربة.
وجاءت اراء كانت وديكارت ونيوتن في الطبيعة وانكسار الضوء والابصار، فهللت لها اوربا ثم تبين من بعد ان اغلبها مأخوذ من ابن الهيثم، وهلل الغرب لوليام هارفي ووصف بأنه مكتشف الدورة الدموية مع ان مكتشفها المسلم الذي سبق هارفي بقرون هو ابن النفيس.
وما نادى به لا مارك من اثر الطبيعة والبيئة في الاحياء قد سبقه اليه ابن خلدون حيث قال ان العادة قد تغير من صفات العضويات كما يغير المناخ، وقبل كبلر وغاليلو وكوبر نيك وضع العلماء المسلمون علم حساب المثلثات بطريقة منظمة واعتبر علماً اسلامياً وعملوا الارصاد واقاموا المراصد وقدروا ابعاد النجوم والكواكب وقالوا بأستدارة الارض وقاسوا محيطها وحسبوا طول السنة الشمسية ورصدوا الاعتدالين وكتبوا عن البقع الشمسية وعن الخسوف والكسوف ووضعوا اسماء كثر من الكواكب التي ما تزال تستعمل حتى اليوم من مثل الدب الاكبر والدب الاصغر والحوت والعقرب.
هذا كله يعني ان الاصول العامة التي تفرعت من بعد قد ارسى دعائمها المسلمون حتى جاءت النهضة الحديثة فأندفعت الى افاق بعيدة واتسعت مجالات العلم من كيمائية وفيزيائية وجيولوجية ورياضية وفلكية وطبيعية ونبات وحيوان، وصلت الى المفاعلات الذرية والتفاعلات الكيميائية المختلفة وارسال القذائف الصاروخية والاقمار الصناعية وسفن الفضاء، هذا كله وغيره مما ابدعه الانطلاق العلمي الحديث غير ان الملاحظة ان هذا التقدم العلمي قد اعترضته مجموعة من المحاذير الخطيرة فما هي هذه المحاذير؟
*******