لا شك ان الغرب قد قدم في مجال العلوم والابحاث معطيات كثيرة وانجازات ضخمة مكنت البشرية من التقدم نحو التحضر والتمدن وحررتها من كثير من معوقات البداوة والجهل ولا شك ان هذه كلها معطيات مادية صرفة لم تقدم للروح ولا للنفس شيئاً من القوة ومن هنا يتضح الموقف من الحضارة الغربية وهو موقف مزدوج يتم فيه قبول ما يتصل بالماديات والالات والتكنولوجيا بأعتبار التقدم العلمي موضوعاً بشرياً مشاعاً بخلاف ما يتصل بالنظرية الخاصة بالنفس والاجتماع والاخلاق والتربية والقانون والفن فأن للمسلمين منها موقف الحذر الشديد، وهذا الحذر انما ينطلق من ان للمسلمين منهج حياة الهي محكم، ابرز مزاياه معالجة النفوس والمجتمعات معالجة واقعية ترتفع بها في الوقت نفسه في مدارج الانسانية درجات.
لقد مر بالمسلمين زمن كانوا ينبهرون فيه امام حضارة اوروبا المادية وامام تلك المعطيات البراقة الزاهية التي تمثلت في فخامة المباني وسرعة الانتقال والاتصال والاضاءة والترف والملاعب والازياء وغيرها من الجوانب المادية فظنوا انها هي علامات التقدم والرقي، ثم انكشف لهم بعد قليل ان الغرب لا يقدم الا جوانب الاستهلاك والترف وانه يخفي عنهم جوانب العلم واسرار التكنولوجيا وهو الذي يحتاجونه، ولقد كان المسلمون فيما مضى قد وضعوا اصول المنهج التجريبي الاسلامي وجعلوه انسانياً عاماً قدموه للبشرية كلها ولم يقصروه على انفسهم ولم يجعلوه من الاسرار الخفية. اجل كان المسلمون يؤمنون بالانسانية كلها ويندمجون في الاجناس والامم ولا ينفصلون عنها ويجعلون العلم خالصاً لله تعالى ومشاعاً للناس جميعاً، اما الغرب فأنه عندما علا على موجة القوة اقام وصاية على العلم والحضارة وجعلهما كما جعل القانون والحرية وكل شيء خاصاً بالجنس الابيض وحدة، وجعل الناس كلهم عبيداً لا يستحقون العدالة ولا الحرية ولا العلم، فأذا قدم له شيئاً فأنما يقدم لهم حصاد الهشيم لمذاهب الشك والتشاؤم والهوى والتحلل والاباحة ويقدم لهم الجوانب المادية التي تدمر داخلهم وتذهب بقدراتهم وتقضي على ثرواتهم فضلاً عن اقتصاده لمصادر هذه الثروات اصلاً من نفط وذهب ومتغنيز وكوبالت وغيرها.
اجل، ان الغرب واصل منهجه الذي اقتفا فيه اثر العبودية اليونانية الرومانية وحمل لواء الاستعباد للشعوب واصطنع اساليب سفك الدماء والاذلال مما هو معارض تماماً للعقيدة المسيحية التي امن بها والتي جاءته من الشرق، ان الغرب سرعان ما انكر معطيات حضارة الاسلام وتجاوز عن طابع الرحمة الذي جاءته به المسيحية فعاد الى الوثنية والعبودية الرومانية واقام حياته على الترف والتحلل والاباحية وانشأ حضارة الربا وعبد الذهب والمصارف واقام المسارح في مقام الكنائس ودور العبادة وبذلك خرج الغرب عن مضمون الدين والخلق جميعاً، وكان لليهودية التلمودية آثارها البعيدة في هذا التحول بالحضارة الى الترف وبالفكر الى المادية وبذلك سقط في ازمة التمزق والقلق والانهيار النفسي والروحي الذي لا سبيل الى التخلص منه.
نعم، شاء الغرب ان يقيم لنفسه منهج حياة وحين عارض طابع الدين كما وصل اليه وجد الطريق مسدوداً امامه ويذلك سقط صريع خصومة الدين كله وعجزت الفلسفة بمذاهبها المختلفة وايدولوجيتها المتعددة من مادية ووجوديه وليبرالية وماركسية ان تعيد اليه الطمأنينة الروحية والسكينة القلبية، وقد حاول بعض المفكرين عندما اضطرب حضارة اوروبا ان يتجهوا الى عنصر الروحية يطعمون به الحضارة المادية من هنا دعا بعض فلاسفتهم من امثال هارمن كارمنج وجيبون وجان كان وموريس مادرلنح الى تحرير الحضارة والفكر الغربيين من المادة الصارخة ولكنهم ضلوا الطريق وتخطوا الاسلام وهو امامهم الى دراسة اداب الهند والبحث في البرهمة والبوذية وعندئذ سقطوا في خطر جديد هو اشد خطراً من المادية الخالصة، ان الاتيوصوفية الشرقية الهندية لا تقدر ان تمد الحضارة الغربية المادية والفكر الاوربي المنقسم على نفسه بين الليبرالية والماركسية ان تمد بزيت يضيء النفس الانسانية او يحل ازمة الانسان الغربي او الفكر الغربي ذلك ان مثل هذه الفلسفات الشرقية قد نبض عطاءها ولم تعد قادرة على ان تمد احداً بشيء. اما البوذية والبرهمية فأنهما يلتقيان مع الوثنية اليونانية القديمة في اصول كثيرة ولها مع الفكر الغربي الثاني تشابه وصلات منذ كانت الاطلوطونية الحديثة، اما الاسلام فأنه يمتاز بالذاتية الخاصة والطابع المتفرد القائم على التوحيد الخالص الذي ينكر كل زيوف التعدد والوثنية والشرك والاباحية والالحاد.
مازال التاريخ يقدم كل يوم تجارب وصوراً ووقائع لمن ما يزالون مبهورين بالفكر الغربي، قدم التاريخ صور الواقع الغربي الاليم الذي يكشف عن تخلخل هذا الفكر وفساد حضارته وفساد مجتمعه واضطرابه ذلك ان الفكر الغربي ابتعد منذ اليوم الاول عن الانصاف والحق في النظر الى الغير وقد استعلى بالعرق والجنس الابيض واعتبر الغرب مصدراً اولياً للبشرية والعالم كله انما هو متلقي واخذ، والتاريخ في الرؤية الغربية يبدأ من الغرب وينتهي في الغرب وليس للعالم كله حساب كأنه لم تقم دول في العالم والحضارة كلها حضارة الغرب بدأها اليونان والروم ثم عادت بعد الف سنة الى اوروبا وحدها اما ما بين ذلك من غير امر البشرية فلا حساب له ولا ذكر.
اجل ان كل وقائع التاريخ تثبت بطلان هذه الدعوى وزيفها فلن يزل الغرب يصطرع بين الطبقات والدعوات وبين الفردية والجماعية وبين الفوضوية والوجودية ولقد كان يعيش في نظام اقطاعي ثم في نطاق الارقاء ثم تحول الى محاكم التفتيش وهو الذي اصر على ان لا يبقي في اوروبا مسلم واحد، وهو الذي شن الحروب الصليبية على الشرق وحروب الافرنج على الاندلس وما يسمى بحروب الفتح على افريقيا وحروباً على الجزائر والمغرب، وطلق العالم الاسلامي كله في سبيل السيطرة عليه، والغرب بعد ذلك هو الذي عايش صراعات القوميات بعد صراع المذاهب الدينية ثم لم يلبث ان واجه صراع الايدولوجيات بعد صراع القوميات، وهو الذي وقع تحت سيطرة الالات واخطار الحرب العالمية والذرة بعد ان عجزت الايدولوجيات ان تقيم له مجتمعاً ناجحاً وعجز العلم ان يقدم له الرحمة والانسانية والحب.
*******