البث المباشر

زكي مبارك ونقد كتابه النثر الفني

الخميس 31 يناير 2019 - 17:36 بتوقيت طهران

الحلقة 169

عرفت الفنون التي سبقت الاسلام ضروباً كثيرة من الرسوم الهندسية ولكن هذه الرسوم لم يكن لها شأن مهم في تلك الفنون اذ كانت تستخدم في الغالب اطارات لغيرها من الزخارف، اما في الفن الاسلامي فقد اضحت الرسوم الهندسية عنصراً من عناصر الزخرفة، ولسنا نريد هنا ان تعنى عناية خاصة بالرسوم الهندسية البسيطة كالمثلثات والمربعات والمعينات والاشكال المخمسة والمسدسة ولا بالاشكال الهندسية التي كان لها شأن يذكر في الزخارف الساسانية والبيزنطية كالدوائر والعصائب والجدائل المزدوجة والخطوط المنتشرة والخطوط المتشابكة وانما نعنى على وجه الخصوص بالرسوم الهندسية التي امتازت بها الفنون الاسلامية ولا سيما في عصر المماليك بمصر، تلك هي التراكيب الهندسية ذي الاشكال النجمية المتعددة الاضلاع وهي التي ذاعت في مصر واستخدمت في زخارف التحف الخشبية والنحاسية وفي الصفحات المذهبة في المصاحف والكتب وفي زخارف السقوف وغير ذلك. وقد اتقن المسلمون هذا النوع وعنوا بالابتكار والتعقيد فيه، وقد عني المستشرق رجوان بدراسة هذه الزخارف الهندسية المعقدة وبتحليلها الى ابسط اشكالها، ويتجلى من دراسته الطريفة ان براعة المسلمين في الزخارف الهندسية لم يكن اساسها الشعور والموهبة‌ الطبيعية وحسب بل كانت تقوم على علم وافر بالهندسة العلمية ولسنا نظن ان المسلمين كان لديهم كتب كان فيها نماذج الزخارف الهندسية الاسلامية الذائعة لكن المرجح ان هذه الزخارف كانت سراً من اسرار الصناعة يتلقاها الصبيان عن معلميهم في الفن والمهنة فكانت تتعلم بالدربة والمران كما كانت تصنع لها قوالب ونماذج يستعملها الصناع والفنانون في بعض الاحيان، اما العنصر النباتي في الزخرفة الاسلامية فقد تأثر كثيراً بأعراض المسلمين عن نظرية‌ محاكاة الطبيعة محاكاة دقيقة فكانوا يستخدمون الجذع النباتي والورقة لتكوين زخرفة تمتاز بما فيها من تكرار وتقابل وتناظر، وتبدو عليها مسحة هندسية تدل على سيادة مبدأ التجريد في الفن الاسلامي. واكثر الزخارف النباتية ‌شيوعاً الارابك وقد عم استعمال هذا المصطلح حتى اطلقت على‌ كل الزخارف النباتية في الفن الاسلامي، لكن الحقيقة ان الارابك هي الزخارف المكونة من فروع نباتية وجذوع منتمية متشابكة ومتتابعة وفيها رسوم محورة عن الطبيعة ترمز الى الوريقات والازهار. وقد بدأ ظهور زخارف الارابك في القرن الثالث الهجري فتراها في الزخارف الجصية التي كانت تغطي الجدران في مدينة سامراء بالعراق وفي مصر ابان العصر الطولوني الذي كان متأثراً كل التأثر بالاساليب الفنية العراقية نظراً لان ابن طولون نشأ في سامراء ونقل منها الاساليب والرؤى الفنية الى مصر، هذا وقد تطورت زخارف ارابك في العصر الفاطمي حتى بلغت بعد ذلك غاية عظمتها في العالم الاسلامي منذ القرن السابع الهجري، وقد اتقن المسلمون زخارف نباتية اخرى غير الارابك تتكون ايضاً من جذوع نباتية وازهار واوراق تختلف في دقة تقليد الطبيعة بحسب الزمان والمكان على اننا نلاحظ في ايران منذ نهاية القرن السابع ان الموضوعات الزخرفية النباتية كانت تميل الى صدق الطبيعة، ويبدو على بعض الزخارف النباتية الاسلامية طابع هندسي لان قوامها خطوط منحنية او ملتفة يتصل بعضها ببعض، وقد يكون بينها ما يبرز منه مض او فصان او اكثر وقد يراعى في هذه الخطوط مبدأ التقابل والتماثل.
اما استخدام الرسوم للكائنات الحيوانية في الزخرفة فهو مما عرفت به الفنون القديمة في آسيا وظهرت رسوم الحيوان الى حد ما في اثار الفن الاسلامي التراثي اذ رسم المسلمون في زخارفهم الفنية صوراً للاسد والفهد والفيل والغزال والارنب والطيور الصغيرة بأنواعها وربما رسموها مع فرع نباتي يتدلى من منقارها او حول رقبتها وقد لاحظ بعض المتخصصين في الفن الاسلامي ان معظم الحيوانات والطيور التي رسمها الفنانون المسلمون كانت من الحيوانات والطيور التي تصطادا وتستعمل في الصيد وهذا يذكر بمشاهد الصيد التي كان يرسمها الشاعر العربي في العصر الجاهلي وفيما بعد مما عرف بأسم الصيد والطرد. واخذ المسلمون عن فنون الشرق الاقصى رسوم حيوانات خرافية ومركبة وطبيعي انها لقيت منهم ترحيباً كبيراً لانها كانت تتفق في تركيبها مع البعد عن الحقيقة والطبيعة ومع التجريد الذي عرفه الفن الاسلامي بيد ان المسلمين حين اخذو الحيوانات الخرافية عن الصين لم يحتفظوا بمعانيها الرمزية بل اصبحت عندهم رسوماً زخرفية فحسب، ومن الحيوانات المركبة التي ذاعت في الرسوم والزخارف الاسلامية رسم الفرس ذي الوجه الآدمي ولاسيما انه يتوفر فيه الوصف الذي جاء في المصادر الاسلامية عن البراق فعني المسلمون برسمها في توضيح قصة المعراج. ونحن نعرف ان الفنانين المسلمين وضحوا بالصور مخطوطات كليلة ودمنة ومخطوطات التاريخ الطبيعي فرسموا شتى انواع الحيوان والطيور ولكنها رسوم طبيعية وليست زخرفية وهي شاذة في الفن الاسلامي وقصدت لذاتها دون ان تكون اساساً للزخرفة بيد ان الفنان المسلم لم يقبل في رسم الحيوان على تقليد الطبيعة تقليداً حرفياً الا منذ القرن السادس الهجري الى ان تأثر بأساليب الرسوم الصينة الحيوانية وهكذا نرى ان رسم الحيوان في الفنون الاسلامية لم يكن مقصوداً لذلك الحيوان الا في النادر القليل وانما اتخذت هذه الرسوم في معظم الاحيان موضوعاً زخرفياً وكانت توضع في دوائر او اشرطة او في مناطق هندسية مختلفة‌ الاشكال منفردة او متواجهة او متدابرة، وقد صنع المسلمون اواني معدنية وخزفية على هيئة الحيوانات والطيور واواني اخرى عليها رسوم الحيوانات على نحو مغاير للطبيعة ومحوّر عنها وعلى نحو محاكي لها احياناً.
ومن مظاهر الفن الاسلامي وتجلياته الجميلة ايها الاخوة الاعمال الفنية المقترنة بالتجليد اذ اظهر المسلمون تفوقاً وبراعة في تجليد الكتب وقد امتازت جلود الكتب الاسلامية بزخارفها الرائعة الهندسية ورسم الحيوان والطير بل حتى الرسوم الآدمية كانت جلود الكتب الايرانية والتركية اكثر تنوعاً من جلود الكتب المصرية والمغربية فكانت الايرانية تشتمل في كثير من الاحيان على مناظر طبيعية او آدمية او حيوانية‌ في حين كانت زخارف الكتب التركية تتألف من رسوم هندسية او اشكال متعددة الاضلاع مجتمع بعضها بجوار بعض في شكل اطباق نمية وسواها من التصاميم الفنية، وكانت الجلود الاولى من خشب مغطى بالجلد والمزين بالرسوم الهندسية ثم استخدم الورق بدل الخشب واستخدمت الزخارف المكونة من الرسوم والخطوط المتشابكة وقد عرف المسلمون في التجليد طريقة الدق اي الضغط كما استخدموا التخريم والطلاء والتلبيس بالقماش وكانوا احياناً يغطون الجلد بالرسم الذي يريدونه ثم يلصقونه على القماش الملون ويذهبون الخطوط والرسوم بعد ذلك، واستعملوا احياناً طريقة قوامها طبقتان من الجلد تلصق احداها فوق الاخرى بعد ان تخرق الموضوعات الزخرفية المطلوبة في الطبقة العليا وبلغت صناعة التجليد ذروة ازدهارها في ايران في القرن التاسع الهجري اذ أبدع الفنانون تركيب الزخارف من المناظر الطبيعية وبلغوا الاتقان في دقة الرسم واسلوب الصناعة وسلامة‌ النسج، وفي القرن العاشر الهجري كان المصورون اكبر عون لصناع جلود الكتب في رسمهم الاشكال الآدمية والزخارف النباتية بدقة ورشاقة وانتج فنانو هذا القرن بعض الجلود الفاخرة المخرمة من الورق والجلد المقطوع بدقة‌ وكانت هذه الجلود ذات طبقات متعددة تختلف كل واحدة في لونها عن الاخرى وتوضع بعضها فوق بعض هذا وقد اشتغل كثير من الفنانين الايرانيين في تركيا في القرن التاسع والعاشر بعد الهجرة فأنتجوا جلوداً ثمينة ونبغ في هذا الميدان كثير من الفنانين الترك.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة