السلام عليكم ايها الاصدقاء ورحمة الله.
في اواخر القرن التاسع عشر حمل جيل الرواد من الرسامين في الشرق شعار الانفتاح والهـويـة، اي الانفتاح على الغرب القوي المتقدم المتسلط والتـمسك بهوية المنطقة كعنوان حضاري بيد ان تجربة هؤلاء الفنانين الشرقيين منية بالاخفاق، اذ لم يكن هذا الشعار الا الفاظاً فارغة لم تعبر عن مضمون حقيقي ومنذ السنوات القليلة التي سبقت منتصف القرن العشرين حتى الثمانينيات منه كانت مرحلة الولادة الحقيقية للفنون، الفنون التشكيلية في البلاد العربية، اذ ارتفع في هذه المرحلة شعار الاصالة والحداثة وغدا الغرب في نظر الفنانين الذين درسوا هناك وعادوا الى بلدانهم مثالاً للذاتية ومثالاً للعالمية في الوقت نفسه، ومن هنا غدت انا الفنان المصدر شبه الوحيد للابداع الفني، اللوحة غدت قائمة بذاتها معتمدة لغة فنية جديدة فالالوان في نفسها لغة والاشكال لغة والخطوط لغة قائمة بنفسها وعندها اختفت لوحات المناظر الطبيعية والرسوم الواقعية وظهر وجه التجريدية كتوجه فني عرفته الثورة الفنية الحديثة، بيد ان هذه الولادة الجديدة قد واجهتها مشكلات اساسية منها طبيعة هذه القيم الجديدة التي بدأ الفنانون يطبقونها في نتاجاتهم ومنها التقنية التي تعلموها في معاهد الغرب ومنها قضية شعار الاصالة والحداثة نفسه قلم يكن الشعار الا مجرد نظرية معلقة في الهواء لا يرتكز على ارض الواقع الشرقي ولا الواقع الغربي كما عرفنا في اللقاء السابق.
لقد ظلت كلمة الحداثة والاصالة من اكثر الكلمات غموضاً والتباساً على الصعيد العملي ومن هنا لم يستطع حملة هذا الشعار ان يؤسسوا لذوق فني عام محكم ومتين فاللغة الفنية الجديدة لم يتعلم الجمهور الواسع قراءتها وظلت في الاربعين سنة الماضية لغة مغلقة ملغزة ثمة تناقض لم يحل في هذا الاتجاه الفني الجديد ينبع من التناقض الحاد بين القيم الفنية التي تستند اليها اللوحة الحديثة وبين القيم الفنية التي قام عليها فن التراث، الى جوار الحجب الكثيفة التي تفصل بين الحاضر والماضي ففن التراث نفسه محاصر بالنسيان وهو بعيد عن الذوق العام السائد في البيئات العربية والشرقية على نحو عام، من جهة اخرى نجد التيار الذي رفع شعار استلهام التراث وخاصة الخط العربي انما راح يستلهم ما استوحاه الفنانون الغربيون من هذا التراث الا في حالات قليلة نادرة ذلك ان التقنية والادوات والطموحات والمعاني انما حملها هؤلاء الفنانون معهم من معاهد الغرب، عندها لا يبقى للتراث الا اشكال وحروف وبقايا نقط شوهتها مواد اللوحة الحديثة، واذ سعى هؤلاء الفنانون نحو الماضي لانه يشهد لهم بالاصالة والانتماء الحضاري المميز، كان الماضي على صعيد الفن بالذات يبدو كعلامة سلبية بالنسبة الى الذوق العام فالاثار التراثية المتناثرة والقليلة جداً سواء كانت في اثاث البيت ام في الازياء ام في فن العمارة غدت كعلامة تأخر عن روح العصر بالمعنى الاجتماعي، اي بدت بعيدة عن التقدم بمفهومة الشامل ويكفي ان نجول الان في العواصم العربية والشرقية ذات التاريخ الطويل او ذات التراث الاصيل لندرك كيف ان هذه المدن بعمرانها واسواقها وازياءها وعاداتها وطموحاتها وهواجسها تتقدم بسرعة نحو الانصهار بمظاهر ما يسمى الحياة العصرية او الحديثة اي الانصهار بمظاهر الحياة الغربية بشتى تفصيلاتها الصغيرة وعناوينها الكبيرة عن طريق الاستهلاك الصرف والتقليد السطحي والتبعية المشوهة.
معنى هذا ان نمو الفن في حركة الفنون التشكيلية في البلاد العربيه والاسلامية انما يتم في ثقافة الفنان نفسها لا في قلبة او في عينه، فالانتقال من موقف فني او مبدأ فني الى مبدأ اخر انما يحدث نتيجة تطور الموقف او المبدأ الثقافي العام الذي تصوغه المواقف الاجتماعية السياسية الفكرية العامة واذا كان هذا النمو يبدو نمواً طبيعياً على صعيد التطور الاجتماعي فأنه يبدو تطوراً غير طبيعي على الصعيد الفني المحض ذلك انه سيصل بنا الى معادلات فكرية توفيقية الصفات تتناقض بالضرورة مع جوهر الابداع وجوهر العمل الفني ذاته ومن ثم سيصل بنا الى غربة حادة تجمع الفنان والمتلقي، الفنان والجمهور الواسع على السواء وهذا ما حدث فعلاً، انه ليمكن القول اذن يا اخي ان العودة الى استلهام التراث في شعار الاصالة والحداثة انما هو عودة فكرية فوقية اذا جاز التعبير ذلك انها كانت بمثابة جواب عن مشكلة حضارية واجهها المجتمع العربي والشرقي عامة في سعيه الجديد لتجاوز المشكلات الحضارية او لحل مشكلاته مع الغرب المتقدم الذي بدأ وانه يحمل وجهاً اخر غير وجه التقدم ذلك ان الغرب المتقدم في القرن التاسع عشر هو الغرب المستعمر في عهد الاستقلال كذلك نستطيع تفسير ظاهرة انجذاب الفنانين العرب والمسلمين الى العواصم الفنية الكبرى في اوربا في اواخر القرن التاسع عشر وسنوات القرن العشرين على انها كانت كجواب عن مشكلات اجتماعية حضارية نابعة من الازمات التي كان يعاني منها الوضع العربي الرازح تحت امراض الحكم العثماني، وفي كلتا الحالتين يمكن القول ان نماء الفن في الحركة التشكيلية الحديثة انما كان نماءاً غير فني بمعنى انه لم يكن ينبع من المشكلات الفنية الخالصة اي انه ليس نماء اليد التي ترسم ولا العين التي تتذوق ولا القلب الذي يرى، ومن هنا لم تستطع حركة الفنون التشكلية في خلال المئة سنة الماضية ان تؤسس للغة فنية تتسع وتتعمق وتعم لتشكل لغة للتواصل بين الفنان وجمهوره او بين العمل الفني ومتلقي العمل الفني، ولتجذر من هذا المنطلق دور الفنان الفاعل على صعيد التغيير وتأثير، ان الحداثة لم تثبت كعنوان ولا كشعار ومرة اخرى تلتهم نار الحروب الخارجية والدخلية والاهلية التي ازدادت اشتعالاً مع نهاية هذا القرن، تلتهم العناوين الجذابة والشعارات البراقة، ومرة اخرى تضطرب الخطوات التشكيلية في تقدمها لتحقيق شعار مواكبة العصر او لتعميق الاصالة.
ومع ثمانينيات هذا القرن خفتت تلك الحماسة التي رافقت ما تسمية الحداثة في الحركة التشكيلية فتتفكك تلك الروابط التي كانت تجمع بين فنانين متوزعين هنا وهناك واذا بتلك المؤسسات الفنية من صالات عرض الى متاحف الى معاهد الى صالونات الى مجلات تنهار لتؤكد انها لم تستطع ان تحفر عميقاً او انها كانت تبني على صخر، ان الاضطراب الحاصل في الحياة الفنية بعد اكثر من مئة عام على مغامرة الفنون التشكيلية لا يدعو الى ضرورة اعادة النظر بمسألة الانفتاح على الفنون الغربية والاخذ بقيم الفن الحديث كقيم عالمية او حديثة فحسب بل ان هذا الاضطراب ليدعو المرء الى اعادة النظر بشعار استلهام التراث او على نحو ادق الى اعادة النظر في فنون التراث نفسها ذلك ان المشكلة ليست في ايجاد الصيغ الفنية لترجمة الرؤى الكبرى التي يحملها المجتمع عامة ففنون التراث يا اخي وان كانت تمنح اللوحة الحديثة بعض السمات المميزة غير انها لا تستطيع ان تضي على هذه اللوحة هويتها الفنية او هويتها الحضارية، فالهوية الحضارية هوية لابد ان تنحدر من الرؤية الشاملة او من الفلسفة الجمالية الكلية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******