ما خلفته تراكمات سياسة الاحتلال والتدخلات العسكرية في الشرق الاوسط منذ عهد الرئيس الجمهوري الاسبق جورج دبليو بوش من ويلات على شعوب المنطقة، ومن اعباء مالية وبشرية ضخمة على الولايات المتحدة، جعلت الرئيس الديمقراطي اللاحق باراك اوباما ان يتقمص دور الطبيب المعالج لما تركه سلفه من اورام ويقوم بتنسيق انسحابات القوات الأميركية من العراق وافغانستان وان يتجنب اي تدخل مباشر في ليبيا او سوريا او اليمن وان يتمترس بحلف الناتو وخلف شركائه الأوروبيين.
الرئيس اوباما استطاع ان يعيد للاقتصاد الأميركي عافيته وان يبعد بلاده عن اية مغامرات عسكرية جديدة وان ينجح في التوصل الى اتفاق تاريخي مع ايران حول برنامجها النووي السلمي وان يفتح صفحة جديدة مع كوبا بعد عقود من الحرب الباردة والعقوبات. السمسار ترامب الذي جاء من خارج السياقات الحزبية المعتادة وبشعبوية مريبة وتحت مظلة الحزب الجمهوري وتربع بشكل عجيب على عرش البيت الأبيض، يبحث عن دور مختلف لا يشبه اوباما ولا يشبه جورج دبليو بوش... فاختار الارتجالية والفوضى وإلغاء انجازات سلفه اوباما.
ترامب المهووس بالمال، انزلق الى مواجهات مع اقرب حلفائه وهم الأوروبيين فبات ينتقد حلف الناتو ويريد من شركائه في القارة الخضراء ان يكتبوا له شيكات بيضاء مما اثار حفظيتهم وجعلهم يفكرون في بناء جيش اوروبي مستقل، علاوة على الاختلافات الاقتصادية. ولم يتوان ترامب عن توجيه الاهانات الى حليفه العربي الاقرب وهي المملكة السعودية ووصفها بـ"البقرة الحلوب" ليبتزها بمئات مليارات الدولارات ويقول إنه لولا الحماية الأميركية لما صمدت السعودية لأكثر من اسبوعين (رغم كل صفقات السلاح خلال عقود من الزمن!)، وحتى كيان الاحتلال الإسرائيلي الحليف الذي لا يتقدم عليه حليف بات ينشد أمنه بالتنسيق مع روسيا نتيجة تطورات الملف السوري بخلاف التوقعات الأميركية.
وفي الوقت الذي تخسر فيه الولايات المتحدة حلفاءها وتجعلهم في حيرة من قرارات ترامب الارتجالية، فأن منافسي واشنطن يعززون نفوذهم السياسي والتجاري والعسكري والامني مثل روسيا والصين والاتحاد الاوروبي في مناطق نفوذ تقليدية للولايات المتحدة مثل تركيا او القارة الأفريقية. وحتى الدول العربية التي تصنف بشكل ما ضمن المحور الاميركي سارعت الى التطبيع مع الحكومة السورية رغم ان الأصوات الأميركية لا زالت تتحدث عن تغيير النظام.
وبذلك فحقيقة الامر، ان الولايات المتحدة في عهدها الترامبي زادت في عزل نفسها عن حلفائها وتراجعت امام منافسيها، واصبحت غير قابلة للثقة وقليلة المصداقية مما جعل كثيرون يبحثون عن توازنات مع قوى دولية او إقليمية تجعلهم في مأمن من الاستدارات غير المحسوبة لرجل البيت الأبيض في قرارات تباغت حتى اقرب المقربين منه.
على هذا، فان جولتي وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ومستشار الامن القومي حون بولتون للمنطقة بشكل متزامن، استهدفت التحشيد والتعبئة لإظهار القوة الأميركية لكنها بينت في الحقيقة ان الأصوات الأميركية عندما تتعالى وعندما تكثر محاولات الإقناع الكلامي بقوتهم ودورهم، فان ذلك يدلل على تراجع واضح في نفوذهم وقدرتهم على إدارة اللعبة في الشرق الأوسط وحتى بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان باتوا يثقون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين اكثر من ترامب لأنه يملك قراره الذي لا يخرج عن المألوف بينما يكون نظيره الأميركي في ارتجالية تجعله يقرر في مكالمة هاتفية، او نصيحة من صهره، او طلب من ابنته ايفانكا او يبحث عن ممول لأي مشروع.
احمد المقدادي / العالم