"كانت الشمس ترتفع فوق رؤوسهم مستديرةً متوهّجة برّاقة، ولم يعد أحد منهم يهتمّ بتجفيف عرقه... كانت السيارة الضخمة تشقّ الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوّتهم وضَعفهم وماضيهم ومستقبلهم.. كما لو أنها آخذة في نطح بابٍ جبّار لِقَدَرٍ جديد مجهول..". غسان كنفاني - "رجال في الشمس".
في الوقت الذي ينصبّ اهتمام العالم على مصير الفلسطينيين الذين انتزعوا حرّيتهم وشقّوا طريقهم صوب مآلٍ اختاروه هُم، بعيداً عن جدران الزنازين وعَتَمَتها، ينهمك الاحتلال الإسرائيلي، يائساً، في التقصّي وراء أي أثر قد يوصِل إلى أولئك الذين كسروا هيبته، وهزّوا أركان أشدّ سجونه تحصيناً.
احتفاءً بمرور 72 عاماً على تشكيل مصلحة السجون الإسرائيلية، "شاباص"، كان من المقرَّر أن يجتمع في 9 أيلول/سبتمبر الجاري مسؤولون من وزارة المالية الصهيونية، ووزارة الأمن الداخلي، وشرطة الاحتلال، ومصلحة السجون الصهيونية في القدس المحتلة.
وتمّ التحضير لهذا الحدث الذي وُصف بالتاريخي منذ نهاية الأسبوع الفائت، للموافقة على جملة تغييرات جذرية في تقسيم ميزانية مصلحة السجون الصهيونية. لكنّ عملية "نفق الحرّية"، التي تزامنت مع "ليلة رأس السنة العبرية"، حالت دونَ ذلك، بل نغّصت على "الإسرائيليين" فرحة العيد، وجعلتهم يستقبلون السنة الجديدة كما شاء لهم الأسرى الستة، في توقيتهم وظروفهم الخاصة.
التخبّط في الرواية الصهيونية
عند ساعات الفجر الأولى، من صباح السادس من أيلول/سبتمبر الجاري، ضجّ إعلام الاحتلال الصهيوني بنبأ تحرّر 6 أسرى من سجن جلبوع، المتاخم لمدينة بيسان المحتلة. وهُم زكريّا الزبيدي ومحمود عارضة وأيهم كممجي ويعقوب قادري ومحمد عارضة ومناضل نفيعات. ثمّ ضجّ ثانيةً بتكهّنات بشأن مكان هروبهم، فتارةً هم في الأردن، وتارةً في الجولان المحتل، وأخرى في الضفة. أمّا التخمين الأخير، حتى هذه اللحظة، فهو أنهم ما زالوا داخل حدود الأراضي المحتلة عام 1948.
انتزع الأسرى الـ6 حرّيتهم عبر نفقٍ صغير كانوا خرجوا منه نحو الـ01:30 فجراً، بحسب رواية إدارة مصلحة السجون الصهيونية الأوّلية، والتي نقلتها صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وذلك بعد أن "اشتبه مزارعون محلّيون في وجود أشخاص مشتبَه فيهم قرب السجن، وقاموا بإبلاغ شرطة الاحتلال عند الساعة 01:50، إلّا أنّ الأخيرة بدأت التحقيق وتبليغ إدارة السِّجن في حدود الـ03:00 من فجر ذلك اليوم".
أمّا بحسب ما نُشر في موقع "والاه" الصهيوني، فإن الرواية الأوّلية، والتي جاءت على لسان أريك يعقوب، قائد منطقة الشمال، لإدارة مصلحة السجون الإسرائيلية خلال مؤتمر صحافي، زعمت أن "الأسرى شوهدوا عند نحو الـ03:00 فجراً يركضون في أحد الحقول القريبة من السجن. وعلى الفور أمرنا السجّانين بإحصاء السجناء، ووجدنا النفق الذي هربوا منه، وحدث ذلك بعد أن مرّ سائق سيارة أجرة في المكان، وأبلغ إلى شرطة الاحتلال" الأمرَ.
وأضاف يعقوب أن "الأسرى الـ6 لم يحفروا نفق الهروب وحدهم، بل ساعدتهم ظروف المبنى على ذلك. لقد استغلّوا فُتحة في مبنى السجن، كانت في أساساته، من أجل الوصول إلى الخارج".
وعلى النقيض من ذلك، أشارت الوحدة الخاصة بالتحقيق مع السجّانين، والتابعة لوحدة "لاهاف 433" القُطرية لـ"الجرائم الخطيرة"، بعد أن أُحيلت عليها قضية التحقيق في حادثة "نفق الحرية" من لواء الشمال في الشرطة، إلى أن إمكان تعاون السجّانين في "جلبوع" مع الأسرى الـ6 ومساعدتهم على الهرب، واردةٌ من دون الحاجة إلى النفق، "بحيث تم الاشتباه في سجّان واحد على الأقل، والتحقيقُ مع 15 آخرين، والقضية لا تزال قيد التحقيق"، بحسب ما نقلت صحيفة "ماكور ريشون" الإسرائيلية.
من جهتها، قالت ضابطة أمنيّة سابقة لدى مصلحة السجون، كانت شاركت في التحقيقات في محاولة تحرّر الأسرى عام 2014 من سجن جلبوع، في مقابلة مع صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، إنها تعتبر فرضية الهروب عبر النفق نسجاً من الخيال، مشيرةً إلى إمكان انخراط سجّانين في هروب الأسرى الستة، مؤكدةً، في ذلك، أقوالَ وزير الأمن الداخلي الصهيوني عومر بار ليف، الذي رجّح تلقّي الأسرى دعماً خارجياً، بعد أن "وصف الحادثة بالخطِرة والصعبة". وأضافت الضابطة السابقة في "شاباص" أنه "لا يمكن أن يتم حفر البلاطة الإسمنتية إلاّ بالمطرقة والإزميل. ورأيتُ قُطْر الحفرة التي هربوا من خلالها، وأتساءل كيف ذلك؟ السجناء في الزنزانة يزداد وزنهم فقط. وإن كانوا فقدوا وزنهم فجأة من دون أن يمرضوا فنحن نلاحظ ذلك، لأنها إشارة تحذيرية بالنسبة إلينا".
عدم رضا إسرائيلي عن مصلحة السجون الـ"شاباص"
يعيش الداخل "الإسرائيلي" حالة من الغليان تذكّر بتراشق التُّهَم وأجواء عدم الاستقرار، والتي سادت في أيار/مايو الماضي، في إثر الهَبّة التي اندلعت في أراضي الـ1948. إذ يزعم غال بيرغر، الصحافي والكاتب في موقع قناة "كان" الإسرائيلية، في مقال يَكيل من خلاله الاتهامات لسياسات مصلحة السجون الإسرائيلية بالتعاطي مع الأسرى الأمنيين، أن الأسرى الأمنيين مُنحوا، في السنوات الأخيرة، حريةً واسعة اندرجت تحت ما عُرف بـ"سياسة الهدوء"، فتمّ رفع مزيد من القيود عنهم، وتراجعت سياسة الردع والتخويف في السجون.
وتابع "برعاية سياسة الهدوء نفسها، يمكن حفر الأنفاق في غزة حتى اليوم. وما حدث مؤخَّراً، يكشف ويبيّن أن من الممكن حفرَ الأنفاق في السجون كذلك، برعاية سياسة الهدوء ذاتها، التي تنتهجها مصلحة السجون"، مضيفاً أن "السجّانين وقادتهم الأمنيين فشلوا في "جلبوع" في منع الأسرى من الهروب. وفي إثر ذلك سيدفعون الثمن، حالهم حال الحارسة التي غطّت في نومها أعلى برج المراقبة، والتي ستفقد عملها أيضًا".
لكن، على الرغم من ذلك، فإن الصحافي الإسرائيلي، آفي بار إيلي، يقول في صحيفة "ذي ماركر" الصهيونية "ليس هؤلاء مَن يجب أن نُلقي عليهم اللوم الأكبر، بل مَن يجلس في مناصب أعلى من برج المراقبة". ويشير إلى أن "حالة التخلّف والبدائية، والتي تُدار من خلالها السجون الصهيونية مقارنةً بنظيراتها في العالم في القرن الـ21، غيرُ منطقية، وتفتقر إلى التكنولوجيا"، قائلاً إن "من غير المنطقي أن يُدار سجن بالدفتر والقلم، وأن تكون صرّة مفاتيح كبيرة في جيب الحارس هي ما يفتح باب الزنزانة ويُوصده". كما يتطرّق في مقاله إلى "الفساد في إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية، والفوضى في توزيع الميزانيات".
الهلع الصهيوني.. ما بعد "نفق الحرية"
ما إن خَبِرَ الاحتلال الصهيوني بانتزاع الأسرى الـ6 حرّيتهم، حتى سارع إلى تجنيد تعزيزات كبيرة من القوات الخاصة، من الـ"شاباص"، ووحدة "متسادا"، وقوات الشرطة، و"حرس الحدود"، بالإضافة إلى "وحدة الكلاب"، بحثاً عنهم. يُضاف إلى ذلك مئات الحواجز الشرطيّة التي نُصبت في منطقة سجن جلبوع، وعند مداخل المدن الفلسطينية في الداخل المحتل، بصورة خاصة، رافقه تفتيش للمَرْكَبات الخصوصية.
وتمّ اقتحام عدة بلدات في الداخل، منها الناعورة، وإكسال، وأم الفحم، والدّحي، وسالم، وغيرها، بصورة هستيرية، توجُّساً من وجود الأسرى الـ6 المحرَّرين في إحداها. وأشارت التقديرات، في جهاز الأمن الإسرائيلي، بحسب صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، إلى أن عملية البحث عن الأسرى قد تستغرق أسابيع، ترافقها إجراءات انتقامية بحق الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ولاسيّما المنتمون إلى تنظيم "الجهاد الإسلامي وعائلاتهم على وجه الخصوص".
لعلّ ما جاء في تقرير بثّته "القناة 12" الصهيونية، يؤكد أن الأيام المقبلة لا تبشّر بالخير لمسؤولي الاحتلال، الذين يتخوّفون من اندلاع الاشتباكات، ليس في غزة والضفة الغربية فحسب، بل أيضاً داخل الأراضي المحتلة عام 1948. فبحسب تقييم لجهاز أمن الاحتلال، فإن "احتمالاً مفاده أن فلسطينيي الداخل يساعدون الأسرى على هروبهم، احتمالٌ عالٍ جداً، وقد يؤدي ذلك إلى اشتعال كبير".
كشفت عملية "نفق الحرّية" عن ثُغَرٍ كبيرة لدى الاحتلال في أجهزته الأمنية وسجونه، وحتى في تعاطيه مع الحدث، وهي بمنزلة نقطة تحوّل ينظر إليها المحتل بعين الرّيبة، خائفاً من أبعادها على الأسرى الآخرين بصورة خاصة، وعلى الفلسطينيين بصورة عامةً، وخصوصاً بعد معركة "سيف القدس". ولعلّ المقبل من الأيام سيكشف المزيد..