البث المباشر

استشهاد علي الأكبر عليه السلام

الأربعاء 26 يوليو 2023 - 18:56 بتوقيت طهران
استشهاد علي الأكبر عليه السلام

ما أن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين صوت حبيبه وسلام ريحانته حتى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء..ولكن بأي حال وجده أم بأي وضعية رآه..

لقد وجده جسداً ممزقاً مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعض أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزكي حلة حمراء.. هكذا تركوه.

فلم يتركوه إلا بعد أن مثلوا به سريعاً، إذ احتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطعوه تقطيعاً ويمزقوا جسمه تمزيقاً. ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم مما أدخله عليهم من عذاب دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأُمة بذاته.

كان سلام الله عليه صلباً صابراً في البأساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء، الأمر الذي يفسر شوق ابن العبدي للانتقام منه، ثم أشواق أولئك المرتزقة الذين آلوا إلا أن يشبعوا غريزة الانتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرك بجسده ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مرّ الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.

ولولا مجئ الإمام الحسين (عليه السلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولِم العجب؟ ألم تلك (آكلة الأكباد) هند الأموية كبد عمه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة.. أجل لولا إسراع الحسين لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين.. وتلك سجية الأجلاف..

وصل الإمام إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثم التحق به شباب هاشم فأخذوا مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرأون آيات البطولة الرسالية والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشمة..

وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين وسكن العسكر بعد اضطراب طويل، فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجر القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب وكل منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة ويتبرأ كذباً من الهروب.

 

الإمام الحسين مع أشلاء الشهيد

لا نفهم لماذا وضع الإمام خده على خد ولده المجاهد العظيم، وبالأحرى نحن لا نفهم ما رتله الإمام وتلاه حينذاك، فلم ندرك سر هذا الإجراء الذي لا يخلو من معنى..

غير أننا نفهم بأن الآلام قد ألمت بالإمام نتيجة التنكيل وشدة الانتقام بهذا الجسد الشريف، وقد ضاق به مشهد ولده سليل المصطفى فهو عبارة عن أشلاء موزعة وأعضاء مقطعة.. ثم تزداد حسرات الإمام وآهاته لما يدركه عميقاً من منزلة لهذا القتيل، ومن شأن وحرمة عند الله وعند رسول الله لذلك تمتم:

(قتل الله قوماً قتلوك يا بني، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول.. على الدنيا بعدك العف) (1).

فصغرت الدنيا بعين الإمام.. ثم أنه قال وآثار الشجون قد تجلّت على سحنته الشريفة:

(أما أنت يا ولدي، فقد استرحت من هم الدنيا وغمها وسرت إلى روح وريحان وجنّة ورضوان، وبقي أبوك لهمها وغمها، فما أسرع لحقوه بك).

ونزلت بالحسين آلام ظهرت معالمها على كيفية قيامه من الأرض، كأنه العجوز المتعب، وظهرت معالمها حينما اعتذر من حمل ولده بنفسه، فطلب من الشبيبة الهاشمية أن تتبنى حمله، لأنه قد صرح: (والله لا طاقة على حمله) (2).

قام الحسين (عليه السلام) ونهض الشباب الهاشمي وقد حملوا الشهيد العظيم..

قام الحسين وهو مختنق بعبرته يحبس حسراته وآهاته في صدره، قام وهو يكفكف بقايا دموعه محتسباً صابراً.. وأخذ يطيل النظر إلى الشهيد المحمول، فكما تابعه حينما خرج للحرب وودعه، يتابعه الآن بطرفه ويلاحقه بالنظر إلى جثمانه الممزق وهو يقطر ويسيل دماً، تحمله أكف الشباب بمطارف حمراء ناقعة بالدم..

شباب لا يخيفهم الموقف ولا يرهبهم المنظر، كما لا يخشون نفس المصير الذي آل إليه هذا المحمول.. شباب ينتظرون مهامهم وأدوارهم، يتنافسون ويتسابقون وكأنما هم يتسلون وفي الحلبات يمرحون، وكأني بهم لا يحملونه فحسب بل يحملون الثأر له ولمن سبقه، يحملون فكره وعقيدته، وإذ هم يضعونه في مخيم الشهداء، فلا ليبقوا معه.. هم جاءوا به لا ليجلسوا حوله، وانما لكي يواصلوا دوره، أو يجددوا صولاته في الميدان، وفعلاً كانوا يحملونه ليرجعوا، ولولا الأوامر الحسينية بحمله إلى المخيم، لما عاد الشباب المؤمن العقائدي إليها، ولباشروا وشهروا السيوف من هناك.

ذلك لأن الشهيد عندهم يغري الآخرين بالشهادة ولا يخيفهم منها، يشوقهم ويجعلهم يتلهفون لها ولا يرهبونها.

يبقى في ذهن الحسين هذا الأب الكبير، ذكرى ولده علي الأكبر، ويبقى في تصوره، صوت علي، وصورة علي، ومنطق علي، وخلق علي ومجمل مواصفات النبي.. وإذ كان هو ذكرى الرسول ومنعكس صورة النبي، فقد فقده وفقدوه جميعاً.. ويتذكر الأب العظيم علويات ولده ومحمديات ابنه، أقواله الصارمة وكلماته الصلبة الكثار التي لا نملك منها إلا أقل القليل، يتذكره جيداً وهو أدرى بما قاله ولده بمنطقه الجميل وأسلوبه الجليل.. فهو يتصوره متكلماً مرة:

(لقرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق أن ترعى..)

(نحن ورب البيت أولى بالنبي). (يا أبه أفلسنا على الحق) (إذن لا نبالي بالموت). (والله لا يحكم فينا ابن الدعي) (الحرب قد بانت لها حقائق).. (يا أبتاه عليك مني السلام..)

آه ذكريات أيام وساعات مضت.

(جزاك الله يا ولدي خير ماجزى به ولد عن ولده)

(ما أجرأهم على الرحمن وانتهاك حرمة الرسول.)

 

مقتبس من كتاب (حياة علي الاكبر عليه السلام) - تأليف: محمد علي عابدين

---------------

1- الطبري: ج 4 ، ص 340 ، واللهوف: ص 44 ، وابن الأثير: ج 3 ، ص 293.

2- وسيلة الدارين : ص 291.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة