البث المباشر

ملامح عهد الإمامة للإمام الجواد عليه السلام

الأحد 7 أكتوبر 2018 - 17:51 بتوقيت طهران
ملامح عهد الإمامة للإمام الجواد عليه السلام

كان عصر الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) من أزهى العصور الاسلامية وأروعها، من حيث تميّزه في نهضته العلمية وحضارته الفكرية، وقد ظل المسلمون وغيرهم أجيالاً وقروناً يقتاتون من موائد الثروات الفكرية والعلمية التي اُسّست في ذلك العصر. ولا بدّ لنا من الحديث - بايجاز - عن معالم عصر الإمام (عليه السلام) فقد أصبحت دراسة العصر من المباحث المنهجية التي لا غنى للباحث عنها.

1 - الحياة الثقافية:

تعتبر الحياة الثقافية في ذلك العصر من أبرز معالم الحياة في العصور الاسلامية على الاطلاق، فقد ازدهرت الحركة الثقافية، وانتشر العلم انتشاراً واسعاً، وتأسّست المعاهد الدراسية، وشاعت الحلقات العلمية، واقبل الناس بلهفة على طلب العلم.

يقول نيكلسون: وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية، ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أنّ الناس جميعاً من الخليفة إلى أقل أفراد العامة شأناً غدوا فجأة طلاّباً للعلم أو على الأقل أنصاراً للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهّفين، ثمّ يصنّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنّفات التي هي أشبه شيء بدوائر المعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل[1]. ونُلمح إلى بعض المعالم الرئيسية من تلك الحياة الثقافية. 

المراكز الثقافية:

أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فهي:

1- المدينة:

وكانت المدينة من أهم المراكز العلمية في ذلك العصر، فقد تشكّلت فيها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقد ضمّت عيون الفقهاء والرواة من الذين سهروا على تدوين أحاديث أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وقد عنوا بصورة موضوعية بتدوين أحاديثهم الخاصة في الفقه الذي يمثل روح الإسلام وجوهره، كما تشكّلت في المدينة مدرسة التابعين وهي مدرسة فقهية عنت بأخذ الفقه ممّا روي عن الصحابة، ويرجع فيما لم يرو فيه عنهم حديث إلى ما يقتضيه الرأي والقياس حسب ما ذكروه. 

2- الكوفة:

وتأتي الكوفة بعد المدينة في الأهمية، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد، والمدارس الاسلامية، فقد انتشرت فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الاسلامية من الفقه والتفسير والحديث وغيرها. 
وكانت الكوفة علوية الرأي، فقد عنت مدرستها بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) وقد حدّث الحسن بن علي الوشاء فقال: أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد[2] ومن أهم الأسر العلمية التي درست في ذلك الجامع هي آل حيّان التغلبي وآل أعين، وبنو عطيّة وبيت بني دراج وغيرهم[3]. 
ولم يكن الفقه وحده هو السائد في مدرسة الكوفة، وإنّما كان النحو سائداً أيضاً، فقد اُنشئت في الكوفة مدرسة النحويين، وكان من أعلامها البارزين: الكسائي الذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنيه الأمين والمأمون، ومن الجدير بالذكر انّ هذا العلم الذي يصون اللسان عن الخطأ قد اخترعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو الذي وضع قواعده واُصوله. 

3- البصرة

وكانت مركزاً مهمّاً لعلم النحو، وكان أوّل من وضع أساس مدرسة البصرة أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت هذه المؤسسة تنافس مدرسة الكوفة، وقد سُمّي نُحاة البصرة (أهل المنطق) تمييزاً عن نُحاة الكوفة وكان من أعلام هذه الصناعة سيبويه الفارسي، وهو صاحب «كتاب سيبويه»، الذي هو من أنضج الكتب العربية وأكثرها عمقاً وأصالة يقول دي بور: «فلو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه عملاً ناضجاً، ومجهوداً عظيماً، حتى أنّ المتأخّرين قالوا: إنّه لا بدّ أن يكون ثمرة جهود متضافرة لكثير من العلماء، مثل قانون ابن سيناء»[4]. 
وكما كانت البصرة ميداناً لعلم النحو كذلك كانت مدرسة لعلم التفسير الذي كان من علمائه البارزين أبو عمرو بن العلاء، وكانت مدرسة أيضاً لعلم العروض الذي وضع اُصوله الخليل بن أحمد صاحب كتاب «العين» الذي هو أوّل معجم وضع في اللغة العربية. 

4- بغداد

حيث ازدهرت بالحركات العلمية والثقافية، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من العلم. ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الاسلامية، وإنّما شملت جميع أنواع العلوم العقلية والنقلية، وكذا سائر الفنون، وقد أصبحت أعظم حاضرة علمية في ذلك العصر، وتوافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا. يقول غوستاف لوبون: «كان العلماء ورجال الفن والاُدباء من جميع الملل والنحل من يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا»، قال أبو الفرج عن المأمون: «إنّه كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده[5]. 
هذه بعض المراكز الثقافية في ذلك العصر.

العلوم السائدة:

وكانت العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها، هي:

1- علوم القرآن:

أ- علم القراءات:

ويُعنى هذا العلم بالبحث عن قراءة القرآن وقد وجدت سبع طُرق في القراءات، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ، ومن أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة ( 145 هـ ) وحمزة بن حبيب الزيات المتوفّى سنة (156 هـ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفّى سنة ( 213 هـ ) وخلف بن هشام البزاز المتوفّى سنة ( 229 هـ )[6]. 

ب- التفسير:

ويُراد به ايضاح الكتاب العزيز وبيان معناه، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره اتجاهين:

الأوّل: التفسير بالمأثور، ونعني به تفسير القرآن بما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهُدى(عليهم السلام) وهذا ما سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي، والعسكري والبرهان، وحجّتهم في ذلك أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه، وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بقوله: «ما يستطيع أحد أن يدّعي انّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»[7] وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن، يقول الشيخ الطوسي: 
«انّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعن الأئمّة الذين قولهم حجة كقول النبي (صلى الله عليه وآله)»[8].

الثاني: التفسير بالرأي، ويُراد به الأخذ بالاعتبارات العقلية الراجعة إلى الاستحسان وقد ذهب إلى ذلك المفسرون من المعتزلة، والباطنية فلم يعنوا بما أثر عن أئمّة الهُدى في تفسير القرآن الكريم، وإنّما استندوا في تفسيره إلى ما يرونه من الاستحسانات العقلية [9].

وعلى أيّة حال فإنّ أوّل مدرسة للتفسير بالمأثور كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو أوّل مفسّر للقرآن الكريم وعنه أخذ عبد الله بن عباس وغيره، من أعلام الصحابة، وكذلك اهتمّ به اهتماماً بالغاً الأئمّة الطاهرون، فتناولت الكثير من محاضراتهم تفسير القرآن، وأسباب نزول آياته وفضل قراءته.

2- علم الحديث:

ونعني به ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عن أحد أوصيائه الأئمّة الطاهرين، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة. 
وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث، فقد حثّ الأئمّة الطاهرون أصحابهم على ذلك، حيث روى أبو بصير فقال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال، «ما يمنعكم من الكتابة، إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها» وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى جمع الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة، وهي الجوامع الاُولى للإمامية والتي تعدّ الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة [10]. 

3- الفقه:

ومن أبرز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم الفقه الذي يتكفل بيان التكاليف اللازمة على المكلّفين وماهم مسؤولون عنه عند الله ومطالبون بامتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة علم الفقه أكثر من سائر العلوم، وقد قام أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بدور فعّال في إنشاء مدرستهم الفقهيّة التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال زرارة، ومحمّد بن مسلم، وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء، وقد دوّنوا ما سمعوه من الأئمّة الطاهرين في اُصولهم التي بلغت زهاء أربعمائة أصل، ثمّ هذّبت، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم للأحكام الشرعية. 
ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على الشيعة، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية. 

4- علم اُصول الفقه:

وأسّس هذا العلم الإمام أبو جعفر محمّد الباقر(عليه السلام)، وهذا العلم ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد والاستنباط، وكان موضع دراسة في ذلك العصر. 

5- علم النحو:

وهو من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي، فقد كانت بحوثه موضع جدل، وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء هذا الفنّ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم الكسائي والفراء وسيبويه، وقد أسّس هذا العلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد العلم والحكمة في الأرض. 

6- علم الكلام:

ويقصد به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلميّة، وقد تأسّس هذا الفنّ على أيدي الأئمة من أهل البيت(عليهم السلام) وتخصّص فيه جماعة من تلاميذهم، يعدّ في طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم، ومن أشهر المتكلّمين عند أهل السنّة واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاّف، وأبو الحسن الأشعري والغزالي. 

7- علم الطب:

وقد شجّع ملوك بني العبّاس على دراسة الطب، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني. 

8- علم الكيمياء:

وقد تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي، وقد تلقّى معلوماته في هذا المجال من الإمام جعفر الصادق العقلية المفكّرة الفريدة في العالم الإنساني والمؤسس لهذا العلم. 

9- علم الهندسة المعمارية والمدنية.

10- علم الفلك.

ترجمة الكتب:

وكان من مظاهر الحياة الثقافية في ذلك العصر الاقبال على ترجمة الكتب إلى اللغة العربية، وقد تناولت كتب الطب، والرياضة، والفلك، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة، ذكر أسماء كثير منها: ابن النديم في الفهرست، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن اسحاق، وقد روى ابن النديم: أنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في انفاذ من يختار من العلوم القديمة المخزونة، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد إمتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق ومسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا ممّا وجدوا، فلمّا حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..[11]. 

المعاهد والمكتبات:

وأنشأت الحكومة في هذا العصر الكثير من المدارس والمعاهد في بغداد لتدريس العلوم الاسلامية وغيرها، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة، وما فيها من مدرسة إلاّ ويقصر القصر البديع عنها. 
كما اُسّست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة، فقد نقل إليها الرشيد مكتبته الخاصة، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي، وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية، فلمّا وصلت إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب، وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على بغداد سنة (656 هـ) عمدوا إلى إتلافها، وبذلك خسر العالم الاسلامي أعظم تراث علمي له [12]. 

الخرائط والمراصد:

أمر المأمون بوضع خريطة للعالم سُمّيت ( الصورة المأمونية ) وهي أوّل خريطة صُنعت للعالم في العصر العباسي، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فاُنشي بالشماسية وهي إحدى محلاّت بغداد[13]. 
في هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) الرائد الأعلى للحركة الثقافية، فقد التفّ حوله العلماء أثناء اقامته في بغداد وهم ينهلون مننمير علومه، وقد سألوه عن أدقّ المسائل الفلسفية والكلامية فكان يجيبهم عليها ويتحدّى الزمن مما منّ الله به عليه من معارف وعلوم[14].
 

 

2- الحياة السياسية

 منهج الحكم الخلافة والوراثة تصرّفات شاذّة الوزارة اضطهاد العلويّين مشكلة خلق القرآن


3- الحياة الاقتصادية

 واردات الدولة تضخّم الثروات التهالك على جمع المال هبات وعطايا اقتناء الجواري

 التفنّن في البناء أثاث البيوت مخلّفات العبّاسيّين من الأموال حياة اللهو والطرب التقشّف والزهد

 


[1] تاريخ الإسلام: 2 / 322 للدكتور حسن إبراهيم حسن. 
[2] حياة الإمام موسى بن جعفر: 1 / 82. 
[3] تاريخ الإسلام: 2 / 338 للدكتور حسن احبراهيم حسن. 
[4] تاريخ الفلسفة في الإسلام: 39. 
[5] حضارة العرب: 218. 
[6] المعارف: 230 - 231، الفهرست: 42 - 45. 
[7] التبيان: 1 / 4. 
[8] حياة الإمام محمّد الباقر: 1 / 181. 
[9] حياة الإمام محمّد الباقر: 1 / 181. 
[10] مقدّمة المقنع والهداية: 10. 
[11] الفهرست: 339. 
[12] تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي: 4/160 - 162. 
[13] عصر المأمون: 1 / 375. 
[14] راجع: حياة الإمام محمد الجواد (عليه السلام): 179 - 188.

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة