سلام من الله الجميل المطلق عليكم أيها الإخوة والأخوات ورحمة منه وبركات...
أطيب التحيات نهديها لكم في مطلع أولى حلقات هذا البرنامج.. فأهلاً بكم ومرحباً.
وكما لاحظتم – مستمعينا الأفاضل – فإن عنوان البرنامج هو نصر الكلمة العرفانية الخالدة والمدوية التي أجراها الله تبارك وتعالى على لسان وليته وأمته المخلصة الصديقة الطاهرة زينب الكبرى – صلوات الله عليها -.
بهذه الكلمة التوحيدية ردت الحوراء الأسيرة على شماتة الطاغية عبيدالله بن زياد وهو يجسد إلحاده بآيات الله حيث خاطب هذه الصديقة المحمدية قائلاً:
كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك..
وكان سؤاله عن واقعة كربلاء واستشهاد الحسين وصحبه وسبي العيالات المحمدية..
فكان الجواب الزينبي شهادة ممن عايشت هذه الواقعة بجميع مشاهدها؛ شهادة بأن هذه الواقعة لم تشتمل إلا على الجميل؛ جميع صنع الله بعباده، وجميل صنع أبطالها في تجسيد أجمل صور التوحيد والعبودية الحقة لله تبارك وتعالى؛ قالت شاهدة ملحمة الإباء – صلوات الله عليها -: ما رأيت إلا جميلا.
وبهذه الكلمة الخالدة نبهت الصديقة الحوراء – صلوات الله عليها – الأجيال الى يوم القيامة الى أن ينظروا الى وقائع ملحمة العشق الإلهي في كربلاء نظرات بعين العرفان الأصيل لكي يشهدوا جمالياتها فتختلط دموع الشوق الى تلكم المكارم والمحاسن العاشورائية بدموع الحزن على عظيم المصاب؛ نظرات تستكشف جمالية الرب في تعامله مع عباده؛ وجمالية العبودية وهي تتجلى في مواقف عباد الله المخلصين وابتغائهم مرضاة الله في أشد صنوف البلاء.
ومما لا شك فيه أن استكشاف هذه الجماليات السامية أقوى عوامل بعث العشق الفطري لله ولأوليائه الصادقين، وهذا العشق هو أقوى عوامل التعبد الصادق والسلوك العرفاني، فهل الدين إلا الحب كما جاء في الأحاديث الشريفة.
وهذا ما نسعى له في حلقات هذا البرنامج ونحن نستعرض مشاهد تلكم الملحمة الخالدة بفصليها الحسيني والزينبي، ونبدأ من المشهد الذي احتضن تلك الكلمة المجسدة لذروة العرفان المحمدي.. كلمة:
ما رأيت إلا جميلا...
أيها الأكارم.. نلمح في هذا المشهد جماليات العزة الإيمانية تتجلى في أقسى مشاهد الأسر والسبي، ونلمح جماليات الجهر بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر بأسمى صورها وهي تقتل شماتته بأهل الإيمان وتذيقه حسرات ذل التمرد على طاعة الله.. ننظر الى هذا المشهد من خلال ما يقرأه فيه سماحة السيد نبيل الحسيني وهو يصوره في كتابه (الجمال في عاشوراء) قائلاً:
(وقفت في مجلس غاص بالجبابرة والعتاة والشامتين؛ في مجلس وضعت فيه رؤوس أخوتها وأبنائها وأرحامها وهي إمرأة وحيدة تحيط بها نساء ثكالى وأطفال أيتام، غدت لا تبصر سوى شخص زينب بنت علي أميرالمؤمنين عليها السلام. إن بكت بكوا وإن أمسكت أمسكوا، وإن تكلمت أنصتوا وإن سكتت تأملوا واعتبروا.
في مجلس وقف فيه طاغية عصرها شامتاً وساخراً وساحراً لعقول أطبق عليها الظلم فغدت بلهاء عوجاء حمقاء تتبع سبيل قوم مجرمين؛ فكأنه ألقى عليهم عصيه وحباله، وقال بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ثم التفت إليها قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.
كلمات خيل الى كثير من الجالسين كأنها حية تسعى!! فرمتها عقيلة حيدر عليهما السلام بكلمات تلقف ما يأفكون، فقالت عليها السلام:
"الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهرنا من الرجس تطهيراً، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا"
فكانت جولة خسر فيها فرعون الكوفة ما أوتيه من سحر فلم يكن يدري أنها تنطق بلسان علي أميرالمؤمنين عليه السلام فأعاد الكرة لعله يفلح هذه المرة! وقد استجمع كل ما ورثه من رجس فألقى كلماته وقال: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟
فقالت عليها السلام:
"ما رأيت إلا جميلاً هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج ثكلتك أمك يا ابن مرجانة".
فغضب – اللعين – وكأنه هم بها.
فقال له عمرو بن حريث: أنها امراة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.
فقال ابن زياد: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك.
فقالت: "لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاءك فقد شفيت".
فقال ابن زياد: هذه سجاعة! ولعمري لقد كان أبوك سجاعاً شاعراً.
فقالت: "يا ابن زياد ما للمرأة والسجاعة! وإن لي عن السجاعة لشغلاً وإني لا عجب ممن يشتفي بقتل أنمته، ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته".
نعم أيها الأكارم، لقد كان هذا الموقف الجمالي فريداً من حيث الزمان والمكان والفكر والرؤى والأشخاص والظروف والعوامل والألم والمشاعر والتحديات؛ فلم يشهد التاريخ يوماً ولن يشهد أن ينطلق مفهوم للجمال من قلب لم يبق موضع فيه يخلو من ألم مبرح ومصاب مقرح وهو مع هذا يرى الجمال يزهو من تلك الوجوه التي تعفرت على رمضاء كربلاء في ساحة الطف يوم عاشوراء.
فحقاً ما رأت عقيلة علي عليهما السلام إلا جميلاً، فهي التي لم تفارق الجمال يوماً، فقد رأت عينها جمال تلك الوجوه التي لو أقسمت على الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله. وهي التي لم تفارق أذنها الجميل فها هو صوت جدها رسول الله وصوت أبيها علي وأمها فاطمة وأخويها الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين يطرق مسامعها.
أنه جمال في جمال هكذا نشأت في الجمال ولا ترى غير الجمال.
ولذا: لما نظرت الى تلك الأجساد وهم أحبتها وأهلها وقد صبغتها الدماء أبصرت فيها الحياة التي تشرق مع كل صباح لتدب دورة جديدة في الفكر البشري فينهض مجدداً في وجه الجهل والظلم والإستبداد والذل.
وينطلق في ساحات المعرفة والعدل والحرية والعزة.
هكذا هو مفهوم الجمال عند العقيلة زينب فإما حياة بجمال وإما موت بجمال.
نشكركم مستمعينا الأطائب على طيب الإستماع لأولى حلقات برنامج ما رأيت إلا جميلا قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران, الى لقاء مقبل بإذن الله دمتم بكل خير.