ومخدرات من عقائل احمد
هجمت عليها القوم في ابياتها
ويتيمة فزعت لجسم كفيلها
حيرى الفؤاد تعج في اصواتها
اهوت على جسم الحسين وقلبها المصدوع كاد يذوب من حسراتها:
ترتاع من ضرب السياط فتنثني
تدعو سرايا قومها وحماتها
اين الحفاظ وفي الطفوف اشلاؤكم
بقيت ثلاثاً في هجير فلاتها
اين الحفاظ وهذه اطفالكم
ذبحت عطاشى في ثرى عرصاتها
اين الحفاظ وهذه فتياتكم
حملت على الاقتاب بين عداتها
حملت برغم الحق وهي ثواكل
عبرى تردد بالشجى زفراتها
فمن المعزي بعد احمد فاطماً
في قتل ابناها وسبي بناتها
اسدل ليل الحادي عشر من المحرم ستر ظلامه، طاوياً يوماً رهيباً لا مثيل له في التأريخ، اجساد زاكية منتشرة على الرمال وقد قطعت تقطيعاً ومثل بها، وبينها جسد المصطفى وسبطه سيد شباب اهل الجنة، ولي الله الصالح ابو عبد الله الحسين، والى مقربة منه ولداه علي الاكبر وعبد الله الرضيع، واخوته العباس وجعفر وعثمان وعبد الله اولاد ام البنين، وهنا وهناك القاسم بن اخيه الامام الحسن المجتبى وبنو عمومته من آل ابي طالب، وجمع من ابرار صحابته واوفيائهم. ويلتفت التأريخ الى الجهة المقابلة فيرى خياماً محروقة سلب اهلها ونهبوا، ولم تبق الا خيمة واحدة استظل بها لفيف من الارامل النائحات، واليتيمات الصارخات، والاطفال الحيرى المذهولين، اجتمعوا هناك بعد ان فروا على وجوههم في الصحراء حين هجم القوم عليهم هجمة جاهلية غائرة، غادرة.. وقد قتل الحسين صلوات الله عليه.
واذا التاريخ ان يحقق من بقي في الخيمة وقد اعدوا للسبي والاسر والرحيل بهم غداً الى قصور الطغاة وبلدان الشامتين العتاة، فانه سيعرف ان المجتمعين اكثر من ثمانين، فيهم اثنتان واربعون امرأة، والباقي منهم اطفال يتامى.. اما النسوة فاغلبهم ينتمين الى بيت النبوة، فهن كرائم الرسالة وحرائر دار الوحي وذراري المصطفى الاكرم وصلى الله عليه وآله وسلم، ثمان منهن زوجات امير المؤمنين علي عليه السلام، واثنتا عشرة امرأة من بناته الطاهرات سيدتهن العقيلة المكرمة تالية امها الزهراء، زينب الكبرى سلام الله عليها، وخمس من زوجات الامام الحسن الزكي عليه السلام، وعدد من بنات الامام الحسين سلام الله عليه وزوجاته فضلاً عن تسع من الاماء اعرفهن فضة، خادمة فاطمة البتول، وهنالك من النسوة النجيبات الفاضلات بينهن زوجة علي بن مظاهر اخي حبيب بن مظاهر الاسدي الشهيد في طف كربلاء وهو في سن الكهولة.. فهل كان في القوم حياء او غيره او سمو او نخوة انسانية، او عربية، او حتى جاهلية تمنعهم عن سبي تلك النساء؟!
وعليك خزي يا امية دائم
يبقى كما في النار دام بقاك
افهل يد سلبت اماءك مثلما
سلبت كريمات الحسين يداك
ام هل برزن بفتح مكة حسراً
كنسائه يوم الطفوف نساك
يا امة باءت بقتل هداتها
شلت يداك وما بلغت مناك
بئس الجزاء لاحمد في آله
وبنيه يوم الطف كان جزاك
بعد الزوال من يوم الحادي عشر من المحرم، تبدأ مسيرة السبي للركب الحسيني الشريف على اقتاب الجمال نحو الكوفة، وفيه امامان موثقان بوثاق الاسرة، الامام علي بن الحسين زين العابدين، وولده محمد الباقر، ويجتمع اهل الكوفة للنظر الى السبايا، وتشرف امرأة من الكوفيات تسألهن من اين الاسارى انتم؟
فتجاب: نحن اسارى آل محمد! ثم يدمغ اهل الكوفة الغدرة بخطبة زينبية دوت وما تزال في سمع التأريخ، اعقبتها خطبة فاطمية لبنت من بنات الامام الحسين، وخطبة اخرى لام كلثوم تلتها خطبة شريفة للامام السجاد علي بن الحسين سلام الله عليهم جميعاً اردت المنافقين، والغدرة والمتخاذلين، ثم كانت المواجهة بين الامام السجاد وعمته زينب مع العاتي عبيد الله بن زياد في قصره، فاستشاط غضباً ثم خذله الله سبحانه.
ويمضي ركب السبا الى الشام في رحلة عصيبة قاسية، وقد اصطحبته رؤوس الاحبة مشالات على رؤوس الرماح، تنكيلاً وتشفياً من رسول الله كما صرح بذلك يزيد وذيوله.
وفي الشام في قصر يزيد بن معاوية كانت الدمغة الزينبية الصاعقة على رأس هذا الطاغية الاشر البطر، فذهل، وكانت للامام السجاد عليه السلام خطبة اخرى في القصر عرفت بكل ما جرى على آل النبي في كربلاء، كما عرفت بالسبايا، ففر يزيد الى مؤذنه المستأجر ان يصرخ بالاذان ليقطع على الامام السجاد خطبته! فكانت منه اخرى اخرى على نحو آخر!
وايام مرة اخرى يقضيها ركب اسرى آل الله في خربة الشام، ثم يبدأ رحيل العودة، ولا عودة الى المدينة الا على طريق يمر على الاحبة بكربلاء كما امرت زينب الكبرى، فيكون الملتقى بهم يوم الاربعين، اربعين الشهادات المفجعة والذكريات الحزينة الكئيبة الملأى حسرات، وزفرات، وآهات هي الى حالة الاحتضار والموت اقرب منها الى الحياة.
واخيراً وبعد ايام قلائل في طف كربلاء تجديداً للعهد وعقداً للقلب على الحزن المقدس الى آخر العمر، يعود ركب السبايا الى المدينة، ليدخل في هيئة تقلب الاجواء الى صراخ وعزاء مهيب، فتسمع زينب وقد تغيرت فلم تعرف قائلة:
مدينة جدنا لا تقبلينا
فبالحسرات والاحزان جينا
خرجنا منك بالاهلين طراً
رجعنا لا رجال ولا بنينا
وتقام المآتم في دور آل المصطفى، وفي الدار الموحشة المستوحشة لاهلها، دار الامام الحسين عليه السلام، وتقوم ام البنين كأنها الام الثكلى بسيد الشهداء الحسين، ويقام العزاء ولا ينتهي، ولركب السبا عظيم في اثارة فاجعة الطف العظمى، واثارة العواطف والاحزان بنقل الوقائع والمشاهد العاشورائية الرهيبة.
ثم تأتي زيارات الائمة الهداة من ذرية الامام الحسين صلوات الله عليه وعليهم، فترسم صوراً ولائية جليلة، تنقل الاجيال الى ساحة الطف وذكريات كربلاء. فنقرأ آثار الغدرة الظالمة في احدى الزيارات:
ورخصت لاهل الشبهة في قتل اهل بيت الصفوة، وابادة نسله (أي نسل النبي صلى الله عليه وآله)، واستيصال شافته، وسبي حرمه، وقتل انصاره، يا موالي فهل عاينكم المصطفى وسهام الامة مغرقة في اكبادكم، ورماحكم مشرعة في نحوركم، وسيوفهم مولعة في دمائكم، وانتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته، وشهيد فوق الجنازة قد شكت اكفانه بالسهام، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه، ومكبل في السجن قد رضت بالحديد اعضاؤه، ومسموم قد قطعت بجرع السم امعاؤه، فهل المحن يا سادتي الا التي لزمتكم، والمصائب الا التي عمتكم، والفجائع الا التي خصتكم، والقوارع الا التي طرقتكم، صلوات الله عليكم، وعلى ارواحكم واجسادكم، ورحمة الله وبركاته.
*******