"يا أبا عبد الله .. إني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم وولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم فأسأل الله الذي أكرمني بمعرفتكم ومعرفة أوليائكم، ورزقني البراءة من أعدائكم أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة وأن يثبت لي عندكم قدم صدق في الدنيا والآخرة".
إخوتنا الأعزة المؤمنين.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، من طالع الإسلام الحنيف بعين الدقة والتحقيق، فإنه سيجده دين الحب في الله، وفي الوقت ذاته يجده دين البغض في الله، كذلك سيراه دين التولي لأولياء الله، ودين البراءة من أعداء الله.
وهذه الحالات – أيها الإخوة الأكارم – وإن كانت في ظاهرها متعارضةً متضادة، إلا أنها موافقة تماماً للفطرة الإنسانية وللعقل السليم، وللحق والعدل والإنصاف، فضلاً عما جاءت به الشرائع والأديان، حيث لا يتصور أبداً أن إنساناً سوياً يحب الأنبياء والمرسلين والأولياء والوصيين، صلوات الله عليهم أجمعين، ثم هو في الوقت نفسه يحب الكفرة والفاسقين وأعداء الله وأعداء الدين، إذ ليس للمرء قلبان جعل أحدهما للخير والحق والآخر للشر والباطل، وقد قال تعالى – كما نقرأ في سورة الأحزاب أيها الإخوة -: "مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ" وهذه – كما يرى أهل الذوق في اللغة العربية كناية عن امتناع الجمع بين المتنافيين في الإعتقاد، فإن القلب الواحد لا يسع اعتقادين متنافيين متناقضين، كذلك المسلم الصادق لا يمكن لقلبه أن يجمع مودة النبي المصطفى وأهل بيته، صلوات الله عليهم، إلى مودة أعدائهم والمؤسسين أساس الظلم والجور عليهم، والدافعين لهم عن مقامهم، والمزيلين لهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها، والقاتلين لهم والممهدين بالتمكين من قتلهم.
بل لابد للمسلم الذي ودّ رسول الله وآله، صلوات الله وسلامه عليهم، ووالاهم وأحبهم وتولاهم، أن يبرأ من أعدائهم وظلمتهم وغاصبيهم ومبغضيهم، فضلاً عن محاربيهم وقتلتهم.
أيها الإخوة والأخوات، وعندما نراجع نصوص زيارات الإمام الحسين صلوات الله عليه، المروية عن أئمة العترة – عليهم السلام – نشاهد فيها تأكيداً ملحوظاً على تعميم المؤمن على التحلي بروح البراءة من قتلة سيد الشهداء – عليه السلام – وأشياعهم إلى يوم القيامة كما يشير لذلك المقطع الذي قرأناه لكم في بداية هذا اللقاء من زيارة عاشوراء المباركة.
وهذا التأكيد ينبهنا إلى أهمية البراءة من هؤلاء لأهميتها في ترسيخ القيم الإلهية التي إستشهد مولانا الحسين – عليه السلام – من أجل بعثها في قلوب ووجدان العالمين إلى يوم القيامة.
عن آثار هذه البراءة يحدثنا مشكوراً الباحث الاسلامي سماحة الشيخ عبد الغني عباس، لنستمع اليه.
عباس: أعوذ بالله من شر الشيطان اللعين الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وبه تعالى نستعين وهو المعين والصلاة والسلام على محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين
في حقيقة الأمر اذا قرأنا جملة من زيارات الامام الحسين عليه السلام نلاحظ هذه الاشارة بأن نلعن الذين قتلوا الحسين عليه السلام وتلك العصابة التي شايعت وبايعت على قتله. ربما يتسائل المتسائل لماذا هذه الاشارة في زيارات الحسين صلوات الله وسلامه عليه؟ في حقيقة الأمر يبدو أن نهضة الحسين عليه السلام ليست نهضة منحصرة لزمان معين وإنما أراد الله سبحانه وتعالى لهذه النهضة أن تكون حركة دائمية، لذا دائماً نقول هذه المقولة المشهورة "كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء" لماذا؟ لأن الصراع بين الحق والباطل هو صراع أزلي أبدي. بدأ منذ نزل أبونا آدم الى هذه الأرض وبدأ الصراع بين أتباع الحق وأتباع الباطل، ويخطأ من يتصور أن هناك مقطعاً زمنياً فقط يتجلى فيه الصراع بين الحق والباطل. هنالك امتدادات لجبهة الحق وهنالك امتدادات لجبهة الباطل ولهذا لايمكن للانسان أن يتملص من إعطاء موقف في حياته. لو نظرنا الى نهضة الحسين صلوات الله وسلامه عليه رأينا ركب الملتحقين ورأينا ركب الناصرين ورأينا ركب الخائفين المترددين ورأينا ايضاً ركب الذين وقفوا أمام نهضة الحسين صلوات الله وسلامه عليه. كل ذلك إنما هو اشارة الى أن الصراع بين الحق والباطل هو صراع دائمي. نحن اذا أردنا أن نجعل من الحسين إماماً لنا ذلك يعني أنه ينبغي علينا أن ننصر الحق في زماننا اليوم، حينما ندعو للأخذ بثأر الحسين صلوات الله وسلامه عليه، ثار الحسين ليس من الأمويين فقط الذين كانوا زمانه وقتلوه وإنما هم أتباع بني أمية وأتباع هذا الفكر وأتباع هذه الثقافة. من هنا ينبغي على الانسان أن يتبرأ وليس الموالاة فقط بمعنى آخر أن الذي يريد أن ينصر الحق يجب عليه أن يقاطع الباطل، لايمكن أن يكون له تمسك بالباطل وقبول بالباطل، لذا ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه أنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نلقى أصحاب المعاصي بوجوه مكفهرة بمعنى انك اذا رأيت عاصياً لايصح لك أن تبتسم في وجهه وأن تضحك في وجهه لأن الابتسامة إنما هي دليل على قبولك بما يعمل بينما اذا أظهرت له أنك مقاطع ولست راض عما يفعل ربما ذلك يكون طريقاً لرجوعه عن الباطل. من هنا فإن نظرتنا لنهضة الحسين صلوات الله وسلامه عليه إنما هي نظرة عصرية لأن الصراع بين الحق والباطل صراع دائمي وصراع أزلي، صراع مستمر وليس متوقفاً ولو نظر الانسان الى بقعته الجغرافية والى ظرفه الزماني لرأي أن الحق يتصارع مع الباطل وأن الباطل يتصارع مع الحق ويجب عليه أن يعطي موقفه، بغض النظر عن درجات هذا الموقف، ربما يكون هذا الموقف باللسان، ربما يكون هذا الموقف باليد او الجهاد وربما يكون هذا الموقف بالقلب فقط. على شتى إختلاف درجات الموقف ينبغي على الانسان أن يقرر بينه وبين نفسه أن ينصر جبهة الحق وأن لايكون مع أهل الباطل لأنه ربما في بعض الأحيان خذلان الحق هو نصرة للباطل وهذا ما رأيناه في كثير من المجتمعات. اذا رأينا في مجتمع معين على سبيل المثال أنهم يخذلون الحق فإن خذلان الحق هو طريق يؤدي الى نصرة الباطل والى ترسيخ الباطل. من هنا فإن نهضة الحسين صلوات الله عليه نهضة عالمية، اذا نظرنا الى عالم اليوم كل العالم اليوم يحتاج الى نهضة الحسين صلوات الله وسلامه عليه، حتى اذا نظرنا الى عالم الغرب هناك مسحوقون، هناك من لايجدون لقمة للعيش في حياتهم. الحسين صلوات الله وسلامه عليه رسالة عالمية وليس رسالة للمسلمين فحسب وإنما هو رسالة لكل المستضعفين على وجه الأرض اذا موالاتنا للحسين عليه السلام تستبطن براءتنا من اعداءه حتى نجعل لحركة الحسين ونهضة الحسين عليه السلام حركة معاصرة في زماننا بين حلقات الصراع بين الحق والباطل. نسأل الله عزوجل أن يوفقنا واياكم لكل خير ببركة الصلاة على محمد وآل محمد.
تقبل الله من الباحث الاسلامي سماحة الشيخ عبد الغني عباس هذه التوضيحات لآثار البراءة من قتلة الحسين عليه السلام وأشياعهم في ترسيخ قيم الولاء الحق. وتقبل الله منكم أعزاءنا المستمعين طيب الاستماع لهذه الحلقة من برنامج الحسين في الوجدان.
إخوتنا الأفاضل.. إن مصطلح (البراءة) ورد في القرآن الكريم في أكثر من عشرين آية كريمة، نذكر منها على سبيل المثال قوله تبارك وتعالى: " {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ"(سورة التوبة۱۱٤)
وقوله جل وعلا: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{۲۱٤} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{۲۱٥} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ{۲۱٦}"(سورة الشعراء)
وقوله عزوجل في أول سورة التوبة المعروفة أيضاً بسورة (براءة):
"َرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ{۱}" إلى قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ "(سورة التوبة۳).
فهل هنالك أمر – إخوتنا الأكارم – أوضح من هذا في عقيدة البراءة من أعداء الله جل وعلا؟! اولئك الذين حاربوا الله عن شأنه في دينه، وفي أنبيائه ورسله وأوصيائه وأوليائه الأئمة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين، حاربوهم بألسنتهم وأسنتهم، وزاحموهم في تبليغ رسالاتهم وهداياهم، ووقفوا سداً حائلاً دون نشر معارف الدين وساقوا الناس نحو الضلال والفساد والظلم والإنحراف.. بعد كل هذا ألا يحق للمسلم المؤمن أن يتبرأ منهم، بل يعلن البراءة منهم قولاً وعملاً وموقفاً قبال الذين قاتلوا سفراء الله وقتلوهم وعذبوا عباد الله وآذوهم وتجاوزوا على حرماتهم وأنفسهم وأموالهم.. ولم يكتفوا بالتنكيل بالأنبياء حتى تعقبوا ذويهم وأتباعهم من بعدهم، يضيقون عليهم البلدان ويطاردونهم ويشردونهم، وإذا ظفروا بهم سجنوهم وقتلوهم!
وأوضح مصداق لما نذكر هنا – أيها الإخوة الأفاضل – بنو أمية، اولئك الذين عبر القرآن الكريم في وصفه إياهم بهذه الآية التي خاطب فيها الباري جل وعلا حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله بعد رؤيا رآها فاغتم منها؛ "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن"، فما تلك يا ترى من عرّفت بالملعونة من شجرة؟!
دعونا – أيها الإخوة الأعزاء – نذهب إلى تفاسير لنرى ماذا كتبت:
ففي (التفسير الكبير) ذكر الفخر الرازي أن من الأقوال الواردة في الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله ما رواه سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله بني أمية ينزون على منبره نزو القردة. وقال الحافظ السيوطي الشافعي في تفسيره (الدر المنثور): عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أريت بني أمية على منابر الأرض، وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء)، وقريب منه ما ذكره البيهقي في (دلائل النبوة)، وأكد ابن كثير في تفسيره أن المراد بالشجرة الملعونة بنوأمية، كذلك روي هذا المعنى واضحاً عن ابن عباس، فيما أخرج ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن المدائني أن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع له ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون منبره واحدٌ واحد، فشق ذلك عليه، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآناً، قال له: "وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ"(سورة الإسراء٦۰).
والآن نتساءل: لماذا نزلت هذه اللعنة الإلهية الغاضبة على تلك الشجرة الخبيثة؟ ألأنها ظالمة، أم مفسدة، أم غاصبة، أم منحرفة؟ أم هي جميع ذلك يا ترى؟ قال الآلوسي الشافعي في تفسيره (روح المعالي) في ظل قوله تعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة) تفسير هذه الآية ببني أمية.. وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق والمخالفة. وكتب في ظل آية الشجرة الملعونة: ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والنواميس المحصنة، ومنع الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام.
بعد كل هذا – أيها الإخوة الأحبة – يراد منا أن نثبت دليلاً على براءتنا من قتلة الحسين، ونحن الذين نحب الحسين ونواليه، والحسين صلوات الله عليه من هو هو.. سبط المصطفى وابن المرتضى وفلذة كبد الصديقة الزهراء، سيد شباب أهل الجنة، ونحن – بحمد الله – نبقى على مودته، حتى أنفاسنا الأخيرة، متبرئين من أعدائه وقتلته.