بسم الله والحمد لله وازكى الصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله آل الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنه ليس بالقليل ان يحب الله تبارك وتعالى احداً او جماعة، بل ذلك إنما يناله ذو الحظ العظيم، ولكن لمحبة الله عباده موقع ومواضع ومواقف وحالات، فالله عزوجل ـ كما صرح في آياته الشريفة: يحب المحسنين ويحب المتقين، كما يُحِبُّ التَّوَّابِينَ والْمُتَطَهِّرِينَ، ويُحِبُّ الصَّابِرِينَ والْمُتَوَكِّلِينَ، وكذا الْمُجَاهِدِينَ، واي مجادين يا ترا؟
يقول عزمن قال: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ» (الصفّ، 4)، اي كالبنيان الذي لايزول ولا يتزعزع، او كالبناء المرصوص بالرصاص، محكماً يقاوم ما يصادمه من اسباب الانهدام.
وهكذا كان اصحاب الامام الحسين (عليه السلام)، سداً في وجه اهل الضلال والنفاق، جاهدوا وقاتلوا دون دينهم، وطاعة لامامهم، ونصرة للحق والشريعة، ملازمين مكانهم على الثبات، وكان بامكانهم ان ينسحبوا او يستسلموا، او يفروا.. وقد اذن لهم، لكنهم ابوّا في عزة من النفس عالية، وكرامة من الروح سامية، ابوا ان يتركوا امامهم امام الحق او يسلموه الى العدو، بل تسابقوا على فدائه وبذل المهج دونه؛ إذ ابت ضمائرهم الباصرة ان يُقتل امامهم سيد شباب الجنة ويبقوا بعده، فضحوا واستشهدوا، فبوأهم الله تعالى مقاعد العلى والشرف الرفيع، فضلاً عما انالهم من الذكر الطيب الحسن، فأصبحوا يُزارون على مدى الزمن، ويُذكرون بالاجلال والتكريم والافتخار، وتُذرف عليهم الموع المحبة كما تُسكب عليهم عبرات الحزن، وتُقال فيهم الاشعار:
يا ليتني كنت الفداء لأنفسٍ
فدت ابن بنت نبيها بحياتها
ولكم مررت بركبلا متمثلاً
شهداءها صرعى على ربواتها
قوقفت واستوقفت فيها عصبة
وقفوا نواظرهم على عبراتها
لم تبق حجة على القوم - الا والحسين (سلام الله عليه) اتمها بالغة ملزمة مُوقظة.
يقول لهم قبل خطابه إياهم: ايها الناس، إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى اعظكم بما هو حق لكم عليّ، وحتى اعتذر اليكم (اي ابين لكم السبب) من مقدمي عليكم. وكانت له (عليه السلام) خُطب فيهم، لم يكن جوابها الا سهام اللؤم والعناد:
وقام لسان الله يخطب واعظا
فصموّا لما عن قدس أنواره عموا
وقال انسبوني من انا اليوم وانظروا
حلال لكم مني دمي، أم محرّم؟!
فما وجدوا الا السهام بنحره
تراش جواباً، والوالي تقوّم!
وتقدم عمر بن سعد نحو عسكر االمام الحسين ورمى بسهم، وقال: إشهدوا لي عند الامير (أي عبيد الله) أني اول من رمى. ثم رمى اصحابه، فطارت السهام رشقاً كالمطر، فأصابت جلَّ اصحاب الحسين (سلام الله عليه)، فاستنهضهم للموت الذي لا بد منه، فقاموا على جراحهم، وانتظروا الاعداء ان يشغلوا بأنفسهم، لكن اصحاب سيد الشهداء لم يكتفوا بان يقوموا ويقفوا كالجبال الشامخة، بل حملوا حملة واحدة ً، خلفت فيهم خمسين شهيداً مُجللاً بالعز والشرف والكرامة، لاقوا ربهم بدماء الشهادة وأنفاس الولاء للنبي وآله صلوات الله عليه وعليهم.
وكان في جملة اولئك الشهداء الابرار من الحملة الاولى يوم عاشوراء: رجل يدعى جابر بن الحجاج وهو مولى عامر بن نهشل التيميّ، كان رجلاً شهماً، وفارساً شجاعاً.
قال بعض المؤرخين: حضر جابر بن الحجاج هذا مع الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وقُتل بين يديه، وكانت شهادته قبل ظهر عاشوراء في الحملة الاولى، فرضوان الله عليه في المخلصين الاوفياء، وفي المجاهدين الصابرين السعداء، وفي زمرة الاصحاب الشهداء، الذين قاتلوا في سبيل الله صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ، فاستشهدوا وصاروا يُزارون بهذه العبارات المجللة: السلام على الارواح المنيخة بقبر ابي عبد الله الحسين (عليه السلام)، السلام عليكم يا طاهرين من الدنس، السلام عليكم يا مهديين، السلام عليكم يا ابرار الله، السلام عليكم وعلى الملائكة الحافين بقبوركم أجمعين، جمعنا الله وإياكم في مستقر رحمته، وتحت عرشه، انه ارحم الراحمين والسلام عليكم ورحة الله وبركاته.
ونقرأ في لوحة الشهداء اسم رجل من شيبان من العدنانية عرب الشمال، هو: جبلة بن علي الشيباني، فمن هو يا ترى؟!
قيل: كان جبلة هذا (رضوان الله تعالى عليه) رجلاً شجاعاً من رجالات الكوفة، شهد واقعة صفين الى جنب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقام مع مسلم بن عقيل رضوان الله عليه أولاً في نهضته، فلما غُدر بمسلم التحق جبلة بن علي بركب سيد شباب اهل الجنة ابي عبد الله الحسين صلوات الله عليه.
فحضر كربلاء وشهد مع الاصحاب الاوفياء يوم عاشوراء، حتى اذا كان رشق سهام الفتنة بعد سهم عمر بن سعد لعنه الله وأخزاه، أُصيب جبلة فيمن اصيب، لكنه سمع امام زمانه يستنهضهم: قوموا (رحمكم الله) الى الموت الذي لابد منه؛ فإن هذه السهام رسل القوم اليكم! فقام جبلة بن علي الشيباني فيمن قاموا في جملة الاصحاب الغيارى، ليدافع عن الحق، ويلبي نداء امام الحق، فاشترك رضوان الله عليه في الحملة الاولى، وكانت حملة شجاعة، حكت على مدى التاريخ عزة الاصحاب وإباءهم وشهامتهم ـ، وكان من شهداء هذه الحملة: جبلة بن الشيباني. فسلام من الله تعالى عليه في الشهداء، وسلام عليه من خاتم الاوصياء، حيث خصه في زيارته لشهداء كربلاء بهذه العبارة الشريفة: السلام على جبلة بن علي الشيباني.