بسم الله، والحمد لله، وأفضل الصلاة والسلام على الحبيب رسول الله، وعلى آله أوالياء الله.
لقد تجسدت في ساحة كربلاء قيم ٍ ومعان أخلاقية رفيعة، قلّ نظيرها أو عدم، كان منها التآخي الصادق بين أصحاب الامام الحسين عليه السلام وإن أختلفت الانساب، كما كان التآخي الحقيقي بين ذوي الارحام، فخرج ابنا عمٍ معا ً يُدعيان "الجابريان" وخرج أخوان لأب ٍ يدعيان "الغفاريان"، فقاتلا معاً، واستشهدا معاً، ودُفنا معاً، وربما يأملان أن يُحشرا معا ً، ويدخلان الجنة إن شاء الله معاً.
أما الجابريان فهما: سيف بن الحارث بن سريع الجابري، ومالك بن عبد بن سُريع الجابريّ، كانا ابني عم، وأخوين لأم في الوقت ذاته. وبنو جابر بطن من (همدان) من عرب الجنوب باليمن. وكان للجابريَّين شرف الانضمام الى الركب الحسيني الشريف، حيث جاء ومعهما شبيب خادمهما، فلما كان اليوم العاشر من المحرم ـ وقد رأيا سيد شباب اهل الجنة عليه السلام بتلك الحال ـ أقبلا وهما يبكيان، فسألهما الحسين عليه السلام وهو العارف: ـ أي ِ ابني أخويَّ ما يبكيكما؟! فو الله اني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين.
فقالا: جعلنا الله فداك، لا والله ما على انفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك... نراك وقد احيط بك ولا نقدر على ان نمنعك (أي نحميك) بأكثر من انفسنا.
فقال سلام الله عليه لهما: جزاكما الله ـ يا ابني اخوي َّ ـ عن وجدكما من ذلك ومواساتكما إياي أحسن جزاء المتقين.
وبعد أن جزّى الامام الحسين الجابريين، همّا أن يهجما، لكنّ حنظلة بن أسعد الشِّبامي (رضوان الله عليه) سبقهما، فنادى في عسكر عمر بن سعد يعظهم مرة ً ويحذرهم أخرى، ويوبخهم ثالثة، فقال له الامام الحسين عليه السلام: يا ابن سعد رحمك الله، إنهم استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم اليه من الحق، ونهضوا اليك يشتمونك وأصحابك، فكيف بهم الان وقد قتلوا إخوانك الصالحين!
وكان لحنظلة هو الاخر استئذان من امام زمانه، ثم رحيل الى الله ورضوانه.. كل هذا والجابريان... ينتظران، وهما متحفزان.
كان الجابريان: مالك بن عبد بن سُريع، وسيف بن الحارث بن سُريع، متلهفين للدخول في غمار المعركة، وهما ينتظران وينظران ما يجري، حتى إذا استشهد حنظلة الشبامي استقدما يتسابقان الى منازلة الاعداء وهم يلتفتان تاى ابي عبد الله الحسين صلوات الله عليه ويقولون له: السلام عليك يا ابن رسول الله، فيجيبهم: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته. ثم جعلا يقاتلان معاً، وإنّ أحدهما ليحمي ظهر صاحبه وابن عمه وأخيه، حتى استشهدا معاً رضوان الله عليهما.
فسلام عليكما ايها الجابريان في زمرة الفائزين، وسلام عليكما هابطاً كل يوم من رب العالمين، وسلام عليكما من المهدي خاتم الوصيين، حيث يزوركم مع الشهداء، في زمرة الاصحاب الاوفياء: السلام على شبيب بن الحارث بن سُريع، السلام على مالكك بن عبد بن سُريع.
أما الغفاريان فهما عبد الله بن عروة الغفاري، وعبد الرحمان بن عروة الغفاري، كان جدهما (حراق) من أصحاب امير المؤمنين علي علي عليه السلام وممن حارب الى جانبه في حروبه الثلاث: الجمل، وصفين والنهروان. والغفاريان هما من أشراف الكوفة ومن شجعانها، وذوي الوالاة لأهل البيت النبوي الشريف.
حضرا كربلاء، وشهدا يوم عاشوراء، واشتركا في الحملة الاولى فاستشهد من الاصحاب خمسون رجلاً... فأخذ يخرج الاصحاب فراجى يستأذنون إمامهم، فيقاتلون ويستشهدون، لكنّ الجابريين: سيف ابن الحارث بن سريع، ومالك بن عبد بن سُريع خرجا معا ً، واستئذنا معاً، وبرزا وقاتلا واستشهدا معاً، رضوان الله عليهما.
ثم خرج بعدهما الغفاريان: عبد الله وعبد الرحمان ابنا عروة، فتقدما ليستشهدا بروح من العزة والفداء بين يدي الامام الحسين عليه السلام.
قال المؤرخ المعروف ابو مخنف: لما رأى أصحاب الحسين عليه السلام أنهم لا يقدرون على ان يمنعوه (اي يحموه) ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يُقتلوا بين يديه.
تقدم الغفاريان فقال لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام: يا ابا عبد الله، حازنا العدو اليك (اي دفعنا لأن ننصرك ما رأينا من تقدم العدوّ لقتالك) فأحببنا أن نُقتل بين يديك ندفع عنك. فرحّب عليه السلام بهما، ودنوا يقاتلان قريباً منه أو بين يديه.
وروي أنّ الغفاريين لكا دنوا من الامام الحسين بكيا، فسألهما عن بكائهما، فأجابا يفديانه بأنفسهما أنهما يبكيان عليه؛ إذ لا ناصر له وقد أحيط به، ثم هما لا يقدران على ان يدفعا عنه شر الاعداء. فجزاهما الامام الحسين سلام الله عليه على حزنهما عليه ومواساتهما إياه.
ثم جعلا يقاتلان قريباً منه او بين يديه وان احدهما ليرتجز فيُتمّ له الآخر رجزه، فيقولان:
قد علمت حقا ً بنو غفار
وخندف بعد بني نزار
لنضربنَّ معشر الفُجّار
بكل عضب ٍ ذكر ٍ بتار ِ
يا قوم ذودواعن بني الاخيار
بالمشرفيّ والقنا الخَطار ِ
ثم قاتلا معا ً... حتى استشهدا معا ً، رضوان الله عليهما، هكذا الآكد فيما روي فيهما انهما: برزا معاً، وارتجزا سوية، وقاتلا كتفاً الى كتف، حتى استشهدا متقاربين وقتا ً ومكانا ً، وتألقت روحاهما الى الرفيق الاعلى سعيدتين بالشهادة، فرضوان الله تعالى عليهما، فهنيئا ً وطوبى لهما.
سعد الفائزون بالنصر يوماً
عزّ فيه النصير لابن البتول ِ
أحسنوا صحبة الحسين وفازوا
أحسن الفوز بالحباء الجزيل ِ
صبروا للنزال ضحوة يوم ٍ
ثم باتوا بمنزل مأهول ِ
وأصيبوا بقرب وُرد ظماءً
فأصابوا الورود من سلسبيل ِ
أبدلوا عن حرور يوم تُقضى
جنّة الخلد تحت ظلّ ٍ ظليل ِ
وقد توَّجهما الامام المهدي صلوات الله عليه بسلامه الشريف المبارك عليهما: السلام على عبد الله وعبد الرحمان ابني عروة بن حراق الغفاريَّين.