لملم الربيع أطراف ثوبه الجميل والنسمات المعتدلة المنعشة راحت تتقهقر أمام لفحات الصيف الحارة ومن على جدران المنازل أطلت الشجار بأغصانها المورقة الخضراء راغبة في إلقاء نظرة وداع على عزيزها المسافر. تقدم أبو سالم من بغله المتهالك وإمتطاه على عجل تاركاً له دفة القيادة في إختيار طريق العودة التي يريد.
كانت عينا أبي سالم تدور بسرعة تمسح الجدران، تحدق في وجوه العابرين، ترمي ببصرها هنا وهناك غير أنه كان غافلاً تماماً أن عينين يقظتين تترصده بإستمرار !!
تخطى أبو سالم بوابة المدينة المنورة واضعاً أولى الخطوات على الطريق المؤدي الى المناطق الزراعية المحيطة، إمتدت المساحات الخضراء أمامه وهو يطوي المسافة مبتعداً عن العمران. وهبطت أشعة الشمس تصافحه عنوة وتمعن في حرارة إستقبالها، إعترضته ساقية صغيرة، نزل من على ظهر بغله جلس القرفصاء على حافة الساقية بيد أنه لم يلتفت لحركة غير طبيعية جرت خلفه كادت تفضح صاحبها. بعد أن بلّ وجهه ويديه وعبء ليس قليل من الماء نهض مواصلاً رحلته. هناك بمحاذاة الطريق إستنام بيت قروي صغير للأشجار الملتفة حوله وكأنه طفل صغير إطمئن الى ذراعي أمه وهي تضمه بحنان وكما لو أن شريط خياله قد توقف عند هذه الصورة. إبتسم أبو سالم وترجل عن ظهر دابته ثم وقف يشد قامته قبل أن يغيبه بيته.
وفي اللحظة التالية سمع وقع خطوات حذرة مبتعدة!!
في غرفة واسعة نسبياً وقف عدة نساء وصبيان وخلف حاجز خشبي صغير وقف شاب في مقتبل العمر ومن وراءه إصطفت لفائف الأقمشة، كان الشاب منهمكاً في عمله والنساء منصرفات الى الحديث عن جودة هذا النسيج او ذاك والصبيان يلحون على أمهاتهم في إختيار هذا اللون او ذاك. وفجأة إقتحم الحانوت شاب لاهث الأنفاس متوتر الأعصاب وراح يقترب من البزاز وهو يشد على قبضته ثم صرخ: هههه ههه لقد وجدته، أجل وجدته!!
ثم أفلتت من فمه ضحكة يخالطها الإنفعال وأردف: هههه وجدته، وجدته، وقعت على بيته!!!
إرتسم الذهول والحيرة على قسمات الشاب البزاز وتراجعت النسوة خطوات ونظراتهم تنطق بالخوف والريبة فيما لاذ الصبيان بأمهاتهم!
إمتعض الشاب وجذب ثوب البزاز وهو يهتف: مالك ياطالب؟ أقول لك لقد وجدته! إكتشفت منزل الرجل، أجل لقد تابعته، لقد تابعته حتى دخل بيته!!
ظهرت ملامح التفكير لأول مرة على وجه البزاز وهمس بخوف: أي رجل ياعبد الله؟
ألقى عليه نظرة إستنكار وأجاب: أي رجل؟ ذلك الرجل الجلف الذي ...
قاطعه طالب بضحكة مفتعلة وأشار اليه من زاوية عينه أن أسكت!!!
وتابع محاولاً التمويه: هههه هههه لدي ما أقوله لك فلو أنك مررت بي في البيت بعد ساعة لوجدتني بإنتظارك !!
غادر عبد الله حانوت صديقه البزاز تشيعه النسوة بنظرات الإستغراب والدهشة!!!
مدّ طالب يده بكأس لبن الى ضيفه وقال: ماذا سينفعنا معرفة منزل الرجل؟
تأمله عبد الله قليلاً قبل أن يجيب: ما عسانا فاعلين اذا لم نكن نعرف؟
مثل ماذا، ردّ عبد الله ببرود!
ألا ينبغي وقف الرجل عند حده!
قال طالب مقلداً طريقة صاحبه في الحديث: وكيف؟
أطرق عبد الله برأسه شاعراً بالإحباط.
عاد صاحبه يقول: قلت وكيف؟
إكتسى وجهه بصبغة الغضب وحدق في عيني طالب وهو يقول: القتل!!
بلورات من العرق البارد لمعت على وجه طالب وتصلد لسانه وإحتبست الكلمات في فمه فلن يحر جواباً.
وقع غريب أحدث في أذنه ذلك الذي فاه به عبد الله. لقد درجا طفلين معاً وعرف احدهما الآخر منذ الصغر غير أنه لم يتصور يوماً أن يفكر عبد الله بالقتل أياً كانت الأسباب. إنه أمر يصعب على التخيل فضلاً عن التصديق! ومن حيث لم يتوقع طالب ايضاً وقف عبد الله وهو يصيح في وجهه بنزق: إنك ضعيف العقيدة، ضعيف الايمان، إنك جبان، جبان، أتسمع؟؟ جبان!!
حاول طالب أن يدافع عن نفسه غير أن عبد الله كان قد خرج وصفق الباب خلفه بشدة.
ألا تقول لي اولاً ياعبد الله؟
سأقول لك، بل سترى كل شيء بأم عينك بعد قليل.
ماذا أرى؟؟
صبراً ياجعفر! صبراً! هاهو المسجد قد بلغناه. قل لي الآن ماذا ترى هناك؟؟
تلفت جعفر هنا وهناك وأجاب: لاأرى شيئاً
وكيف لاترى شيئاً؟
اعني لاأرى شيئاً ذا بال!!
انظر ياصديقي انظر، ألم تلمح ذلك الرجل الواقف والى جانبه بغل؟
أجل أجل، وماذا في الأمر؟
المهم أنك رأيته. الآن إفتح عينيك جيداً وسترى كل شيء بنفسك.
ألقى جعفر نظرة إستغراب على صاحبه ثم عاد ينظر لصاحب البغل.
كان المصلون يتقاطرون على المسجد مثنى وفرادى، ومن احد المنعطفات ظهر رجل كهل عليه آيات الهيبة والوقار وراح يتقدم بأنات صوب المسجد.
وما إن وقعت عينا جعفر عليه حتى هتف بصاحبه: ها الامام الكاظم قادم، الامام! هيا هيا ياعبد الله!
أمسك عبد الله بطرف ثوب صاحبه وهمس: إنتظر
ثم أردف: قلت إفتح عينيك جيداً!
أثارته كلمات صاحبه وهمّ أن يصرخ بوجهه غير أن صاحب البغل شدّ إنتباهه. تقدم الرجل بسرعة معترضاً طريق الامام ثم توقف وفغر بالذم المقدح فماً، صبت الكلمات كرنين الصفعة القوية على أذنه فوثب جعفر محاولاً البطش بالرجل إلا أن عبد الله أمسكه وهتف: إنتظر إنتظر!!
ولشدما أذهل جعفر أن رأى الامام يمر كأن لم يسمع شيئاً.
إلتفت جعفر الى صاحبه مغضباً وهتف: لماذا لم تدعني أودبه؟
أسكت لو فعلت لمنعك الامام.
يمنعني؟ لم؟
لقد عرض عليه الكثير من شيعته ذلك فأبى.
وقبل أن يسمع ردّ صاحبه واصل عبد الله كلامه بنبرات متوترة: إسمع ياجعفر إنني ماجئتك إلا من أجل هذا، إنني أرى أن لايجوز التسامح مع مثل هذا الرجل. آخ، لعل مثل هذا السلوك يشجعه على المضي في عدوانه او حتى ربما جرأ الآخرين على هذا الفعل ايضاً.
تأمل جعفر قليلاً وقال: إنني معك، انا لاأرى السبيل لإيقافه عند حده إلا كتم انفاسه وإسحاق نفسه الخبيثة!
نظر جعفر الى صاحبه فلمح في عينيه بريق الاصرار والعزم فردّ قائلاً: إنني معك ولكن؟
ماذا؟
بشرط واحد!!
شرط؟
أجل أجل، وهو أن نستشير الامام!
صاح عبد الله بعصبية: اراك خفت؟
إبتسم جعفر بمرارة وقال: أجل ولكن ليس حيث ذهبت، انني أخشى أن لايحظى هذا العمل برضا الامام ومباركته فماذا تكون عاقبة عملنا ياترى؟؟
بدت علائم الاهتمام والتفكير على وجه عبد الله وقال بعد فترة صمت: وماذا لو رضي الامام؟
عند ذاك سينتقل هذا الرجل الذميم وعلى جناح السرعة الى المكان الذي هو اجدر به، أعني في قاع جهنم !!
رفرفت الابتسامة على ثغر عبد الله وقال: جيد، إتفقنا اذن!
فردّ صاحبه: إتفقنا!!
جلس أبو سالم القرفصاء بعد أن شمل مزرعته بنظرة رضا وراح يجتث النباتات الطفيلية النامية بين نبتات الخير. وما فتأت عيناه تراقب هذا الرجل الذي أقبل على حماره هادئاً مطمئناً، صاح أبو سالم وهو يرى الرجل يدخل المزرعة وهو على ظهر حماره: لاتدس زرعنا !
فلم يسمع جواباً، عاد أبو سالم الى الصراخ: لقد أفسدت عليّ زرعي!
فلم يأبه الرجل لصراخه. وعلى غير مايعرفه في نفسه من حدة الطبع وشكاسة خلق وجد أبو سالم نفسه يضحك. ألقى الرجل التحية وهو ينزل عن حماره ثم دنا مبتسماً وقال: كم غرمت على زرعك هذا؟
ردّ أبو سالم مطرقاً وقد شعر بالحياء مما بدر منه: مئة درهم!
كم ترجو أن تربح؟
بسط أبو سالم يده وهو يقول: لاأدري!!
ردّ الرجل باسماً: سألتك كم ترجو؟
مئة اخرى!
بارك الله لك فيه !
دخل عبد الله المسجد كعادته وسرعان ماتوقف كالمصعوق لايقدم قدماً ولايؤخر أخرى، ولسانه الوحيد الذي تحرك بكلمتين: أبو سالم؟
كان المصلون ينتظمون في صفوف متراصة إستعداداً لصلاة المغرب وبالأصوات التي هدرت بالصلاة على محمد وآله مرحبة بقدوم الامام إرتفع صوت يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته" وهو في شدة حيرته وذهوله وجد عبد الله من يناديه بهمس: هل ترى ياجعفر؟ ما هذا؟
قاطعه جعفر بضحكة مكتومة وهو يقول: لقد أصبح الامام ما أردته بكلمات !!