لشدما يكره الوقوف على أبواب المتكبرين أو مخالطتهم أو حتى التحدث اليهم... فالإنسان الكريم يشعر إذا ما دعته الى مثل هذه المواقف حاجة، كأنه ينحر كرامته وعزته بسكين من خشب..!
سيدخل – من غير شك – في صراع عنيف مع نفسه..! صراع لن ينتهي بالتأكيد الى أحمد العواقب... فهو إذا ما رفض تبقى الحاجة قائمة ، ترهقه وتثقل عليه صباح مساء، وإذا ما وافق فإنه سيفري أوداج عزته بذلك السكين الخشبي الذي سيطيل عذابه، دون أن يعمل عمله...!
ولو كانت تلك الحاجة متعلقة بشخصه، لكان الأمر محسوماً بدءاً، ولما عاش هذا الصراع أبداً... فهو يفضل أن يموت قبل أن يرى كرامته تخر صريعة أمامه...!
ولكن ما العمل، فقد جاءه صديقه يوماً، وقد كسا وجهه الهم، واعتصر قلبه الألم، وهو يحاول رغم ذلك إخفاء ما يعاني، والتهرب من البوح بما ألمّ به... لكنه استطاع أخيراً أن يجره للكلام ...وسرعان ما ندم...! فلو لم يلح عليه، من أجل أن يصارحه، لما وجد نفسه اليوم يعيش كل هذا الصراع...!
قال له، متجنباً النظر الى عينيه:
- إن لي الى فلان حاجة، فهل تقدر أن تكلمه فيها...؟!
تساءل بانفعال وقد فوجئ:
- فلان..؟!! ...أجاب الصديق، بعد أن قاسه بنظرة فاحصة:
- أجل..! ...رد محاولاً التهرب:
- ولكني... ولكني.... قاطعه صاحبه وقد ضاق بالجواب:
- لولا إلحاحك علي، لما تفوهت.. وها أنت تتنصل بعد أن عرفت...!
آذته كلمات صاحبه، واستحى من موقفه... فوافق على مضض.
تنفس الصعداء، وهو يقول مع نفسه: من حسن الحظ، إنه لم يضرب له أجلاً محدداً...!
بعد وقفة خاشعة قصيرة في محرابه... انقطع الإمام للصلاة وانسابت الكلمات من فمه، هادئة عميقة النبرات: الله أكبر، الله أكبر... أشهد أن لا إله إلا الله.... أحس ابان معها، انه بدأ ينشد، يلتحم بعالم آخر... شعر بوجيب قلبه يتناغم مع جرس الكلمات التي تتابعت بنفس النبرات: الحمد لله رب العالمين... راح يرتقي معها الى عوالم ربانية شاهقة... يحلق في آفاق سامية، بعيدة بعيدة...
وبدلاً من أن تخالطه الخشية من ارتياد تلك العوالم المتناهية، شعر بسكينة لم يعهدها من قبل... لم يجربها مرة في حياته...!
... أجل...لقد كانت تلك أول صلاة صلاها خلف أستاذه وإمامه أبي عبدالله الصادق – عليه السلام – بقية البيت النبوي...
لقد أنس بعدها مرات ومرات، بأوقيات معنوية سامية فريدة، كلما أتيح له أن يأتم بإمامه ومقتداه...!
إبتسم مع نفسه، وقال: إنه على موعد اليوم مع تجربة عبادية ثرة أخرى... تجربة ينطلق فيها مع الإمام لسبر عالم معنوي آخر... يخطو فيها... يتحرك حول مسار مرسوم، كتعهد منه بجعل الله تعالى، محور حركته في الحياة..!
...ولقد وفى أستاذه بوعده، في أن يصحبه لأداء العمرة، وزيارة بيت الله.
رآه، ومنذ انطلق في الشوط الأول يشق طريقه وسط الطائفين، غارقاً في لجة من نور..!
..حاول أن يكون أقرب ما يكون اليه... إلا أن الزحام كان يقربه طوراً ويبعده آخر...
- أبان...! أبان...! ...سمع من يناديه...
قال مع نفسه دون أن يلتفت: لا يمكن أن يكون هذا صوت الإمام...!
هز رسه بالنفي، موكداً ذلك بالقول: لا يمكن أبداً... إنه يعرف صوت الإمام جيداً... تجاهل الأمر... غير أن الصوت تكرر بنحو أقرب هذه المرة:
- أبان... أبان...! التفت الى مصدره، فرأى صاحبه الذي جاءه قبل أيام، طالباً شفاعته.. شعر بالحنق... لكنه تحامل على نفسه...، مشيراً اليه، أنه سيلتقيه عما قليل...
- وأقبل على متابعة طوافه... ساعياً لأن يكون الى جوار الإمام...
تكرر النداء ثالثة...
- أبان..! ...لمح الإمام الرجل، فالتفت الى أبان، وقال:
- يا أبان...! ..إياك يريد هذا؟ ...رد بشيء من التبرم:
- نعم...!
عاد الإمام يسأل:
- فمن هو؟ ...أجاب أبان، دون أن يخفي امتعاضه:
- رجل من أصحابنا... سأل الإمام ثالثة:
- هو على مثل ما أنت عليه؟! ...أدرك أبان مغزى سؤال الإمام، فرد بنحو آخر:
- نعم...! ...أسرع الإمام ليقول:
- فأذهب اليه...! ...إستفهم أبان كالمحتج:
- وأقطع الطواف..؟! ....أجاب الإمام:
- نعم...! ....عاد أبان يسأل:
- وإن كان الطواف فريضة؟! .... رد الإمام بابتسامة:
- نعم...! ...انفتل أبان من طوافه، متجهاً الى صاحبه.
رجع أبان من أداء مهمته فرحاً... لا لأنه استطاع قضاء حاجة صديقه وحسب، بل لإكتشافه انطباعاً خاطئاً، كان يتحكم بذهنيته...! فظاهر الإنسان وملامحه العامة، كما كان يظن، كافيان للتدليل على مدى انفتاحه أو انغلاقه، وتشخيص ما إذا كان متواضعاً أو متكبراً متفهماً أم متعجرفاً...
غير أن ما لمسه بنفسه اليوم، أثبت له خلاف ذلك تماماً...
فلقد تبين له أن الرجل الذي قصده، شافعاً لصديقه، رجل طيب، ينبض قلبه بالرحمة...! إذ لم يكد يلقي التحية عليه، حتى انقشعت غيمة العبوس التي طالما رآها تخيم على وجهه، وأقبل عليه مرحباً... دون أن يتردد في إجابة رغبته..!
حقاً إنه لمن الصعب جداً، سبر غور الإنسان... فبينما يبدو لك مقطباً عابساً، فتخاله مغروراً متكبراً، وإذا هو – مع أول موقف – شيء آخر... نظير صدفة صلدة تحطمها، لتتكشف لك عن لؤلؤة رائعة...!
وقد ترى آخر هشوشاً بشوشاً، يوزع الإبتسامات هنا وهناك ...بيد أنه ولأدنى سبب يدعو لأن تتقاطع معه، تجده مرجلاً يغلي بالحقد والأنانية والغرور...!
الحق... إنه سعد بهذه التجربة الثمينة، وشعر بالإرتياح... لكنه شعور عابر... ذلك أن قضية أكبر، أو قل اكتشافاً أكبر بدى له فشغل ذهنه بالتفكير الطويل...
عندما يكون العبد ماثلاً بين يدي الله.. مصلياً، صائماً، طائفاً، ساعياً... فهو أقرب ما يكون الى ربه... فليس هناك من طاعة فوق ذلك... هكذا كان يعتقد، لكن ما عرفه اليوم شيئاً آخر...أجل... شيئا آخر تماماً...
فهو يضع مساعدة الخلق فوق عبادة الخالق، أو الأحرى، انه يعتبر ذلك عبادة وطاعة مقدمة على العبادات والطاعات...!
ألم يأمره الإمام بقطع طوافه... من أجل إسعاف أخيه المؤمن في حاجته...!
ترى ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك... انه ليبدو يؤسس لفكرة يصعب عليه تعقلها... أيصدق أن يجعل الله حق الناس أوجب من حقه هو عليهم...؟!
إن قضية بهذا القدر من الأهمية لا ينبغي له أن يمر عليها مروراً... ينبغي له أن يعرفها جيداً، ويتملاها جيداً...!
جلس بتواضع بين يدي الإمام وسأل:
- أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟ ... ألقى الإمام نظرة خاطفة عليه، وأطرق، ثم قال:
- يا أبان دعه لا ترِده...! أدرك أبان ثقل الجواب... فتجاذبه الإهتمام والفضول، وقال:
- بلى، جعلت فداك...! .......رد الإمام مترفقاً:
- لا ترده...! .......فأصرّ أبان على سماع الجواب، مكرراً:
- بلى جعلت فداك...! ...صمت الإمام قليلاً، ثم قال:
- يا أبان تقاسمه شطر مالك...! ...تكدرت ملامح أبان... وأصابه الذهول... وكأنه يقول: ماذا...؟ ...أيعقل ذلك....؟
- نظر إليه الإمام وقال:
- يا أبان...! أما تعلم أن الله تعالى قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟
رد أبان كالمغلوب على أمره:
- بلى جعلت فداك...! ...فقال الإمام، كما لو كان يقرر حقيقة نهائية.
- أما إذا قاسمته، فلم تؤثره بعد... إنما أنت وهو سواء ...! إنما تؤثره إذا أعطيته من النصف الآخر...!