دويها الثقيل المخيف ، لا تطيق الاذن سماعه... ضجيج متصل من اصوات متنافرة شتّى... صليل السيوف المختلطة بزعيق المقاتلين ،بصهيل الخيل... انه ايقاع الحرب...! بل لسانها اذا تكلمت...!
ورغم كل ذلك ، فهو قد تقوقع على عالمه... حتى لا يكاد يحس بشئ مما حوله... كانت عيناه مشدودتين الى الجبل القريب...ما فتأ يرسل نظرات ساهمة الى اُحد ، حيث عسكر محمد بأصحابه... لكن عقله كان مشدودا ً الى جهة قريبة... الى خيمة القائد...حيث اُقيم معسكر قريش في الجهة المقابلة لمعسكر محمد...
لم يستطع رغم كل ماحاول ان يصرف ذهنه عن الكلمات التي فاه بها ابوسفيان - صخر ابن حرب -...انها لتضج في رأسه كصوت طبل مخروق مزعج...!
لا يعرف ما الذي دعاه الى التفوه بذلك الكلام الشائن السفيه ؟!.. كيف يأذن لنفسه تحدي بني عبد الدار ؟!... هولاء الابطال الذين ما طرحوا اللواء في حرب يوماً... ذوداً عن شرف قريش...!
لولا وقوف قومه في ساحة الحرب مع محمد ، لعرف كيف يلقن ابن حرب درساً لا ينساه...! درساً يكافئ كلماته... بل اهانته التي لا تُنسى..!
اجل... لا يمكن ان يغيب عن ذهنه ذلك المشهد ، اذ وقف ابو سفيان قبل ان يشتبك الجيشان مخاطباً حملة الراية :
- يا بني عبد الدار ، انما يؤتى القوم من قبل لوائهم... وانما اُتينا يوم بدر من اللواء... فالزموا لواءكم وحافظوا عليه... او خلوا بيننا وبينه...!
عندها شعر كأن صفعة قوية دوت على اذنيه... فصرخ مستنكراً :
- نحن نسّلم لواءنا.. ؟! لا كان هذا ابداً...!... فاقترح ابو سفيان ، متعمداً الامعان في اغاضته :
- نجعل لواءاً آخر......!.. فرد وقد بلغ الغيض به منتهاه :
- نعم...ولا يحمله الا رجل من بني عبد الدار..ثم لوّح بيده وهو يضيف :
- لا كان غير ذلك ابداً..!!
استيقظ من هواجسه على صرخات مقاتل مسلم ، اخذ يشق طريقه وسط الجيش... انتابه الذهول والقلق ، وهو يراه يتقدم راجلا وبسهولة ، فيما تفرق الفرسان ، فارين من بين يديه... تطاول محاولاً رؤيته... اخذه شيئ شبيه برعدة الغضب...انه ذات الشاب الهاشمى الذي قهر قادة جيش قريش ببدر.. حربها الاولى مع محمد..اجل هو نفسه..علي ابن ابي طالب..!!
- يا لها من جرأة فريدة..دفعته لاقتحام جيشنا!....قال بحنق ثم اضاف:
- كأنه يمني نفسه الظفر باللواء!..... شدّ على اللواء بيده ، وزأر قائلاً :
- ساوقفه عند حده...!
ركز اللواء بقوة في الارض ، لئلا يعيق حركته... ثم شهر سيفه وعاد يزأر...لكن ذلك لم يغنه... اذ سرعان ما تناوله خصمه بضربة من طرف سيفه ، فتهاوى الى الارض... ثم تبعه اللواء...!
تنادى بنوعبد الدار فيما بينهم لحمل اللواء ، قبل ان ينتدبوا من يحمله..لكن مصير هذا ، لم يكن باحسن من مصير رفيقه..!...فتداعى هو الاخر، مطلقا صرخة مخنوقة....!
هز الحادث اعصاب بني عبد الدار، وابي سفيان معا!...بيد انهم تجلدوا..فهم امام تحدٍ صارخ ، ولابد لهم من ان يمضوا به الى الاخير...!
تناوب سبعة رجال آخرون من بني عبد الدار على حمل اللواء... وفي كل مرة...كان القدر يكمن لهم على بعد خطوة..فيعود اللواء فينتكس...!!
... وتراجع صناديد قريش وهم يرون بني عبد الدار صرعى...و لم تبق امام ابي سفيان من حيلة لوقف الهزيمة التي بدأت تلوح... الا ان يدفع اللواء الى إمرأة... وعندها...أشاح علي بوجهه ، وعاد ادراجه...!
فيما كان العدو يقف على حافة الانهيار التام..عاجزاً عن حشد فلوله الممزقة... حصل تطور خطير...! هذا ما أحسه علي بوضوح...!
توقف في قلب الجيش المعادي ، متأملا الموقف ، ثم التفت الى حيث ترك النبي واقفا في ظل سقيفة صغيرة ، يتابع القتال ويوجهه...
فهاله ما رأى... اذ بدى له انقلاب الموقف القتالي تماما ً..!!
ان ما يقع تحت عينيه ، يحكى عن انكسار مريع في جبهة المسلمين...!
..مثل الخطر كافعوان اسطوري لا بداية له ولا نهاية...!
... ولكن... ما له لا يرى النبي... ؟!
انقلب علي يجري ، بحثا ًعن النبي ، وعيناه لا تكادان تستقران على شيئ.!
...رابه تجمع لافراد العدو... فشدّ عليهم ، يضرب بسيفه يمينا ً وشمالا ً... فتشتتوا لائذين بالفرار...!
يالهي...! ما هذا..؟! النبي على الارض..مغشيا ًعليه..؟!
رحماك يارب..! لقد كسرت رباعيته...!!.......تنبه النبي على يد علي الحانية... فنظر اليه وقال :
- ما صنع الناس يا علي .. ؟!... فرح علي بسلامة النبي...! لكن ردّه جاء ممزوجا ً بالالم :
- نقضوا العهد يا رسول الله...! وولوا الدبر وأسلموك...!
قطع عليهم الحوارتقدم كتيبة للعدو ، فهتف النبي :
- ردّ عني يا علي هذه الكتيبة...!.. فشدّ علي عليها مشحونا بالغضب.. ففرقها في لمحة بصر.. وعاد الى مكانه... فابتسم له النبي ، دون ان تفارق وجهه علائم الالم وقال :
- ما لك لم تفر مع الناس ؟!... انفرجت ملامح علي قليلاً..و قال بنبرة كالعتاب :
- يا رسول الله..! أارجع كافرا ً بعد إسلامي... ؟!
القى الفارون - وهم يتسلقون جبل احد - نظرة الى الوراء ، الى مواقعهم التي أخلوها... فأحرجهم ما رأوا... وأشعرهم بالضآلة... كان النبي وعلي وحيدين وسط المشركين...!!.. فأنفغرت أفواههم عجبا ، ونظر احدهم في وجه الآخر متساءلين :
- كيف لم يفر علي... هذا الشاب ذي العشرين ونيف ربيعا ً..؟!... ولم فروا هم إذن ، وفيهم الرجال والشيوخ... ؟؟!!
أصابهم الخجل.. فندموا.. ولاموا أنفسهم..وخافوا الوعيد اللهي للفارين المدبرين... فثابوا الى رشدهم.....!
توقف احدهم يسأل صاحبه :
- الى اين نحن ذاهبون ؟!... فأجابه الاخر منكس الرأس :
- الى العار...!..... فرد السائل مقرا ً :
- العار والنار.. والله..!!...
انقلب الاصحاب عائدين الى النبي... كان اولهم أوبة : ابو دجانة وابو ايوب الانصاري وتبعهم آخرون وحدانا وزرافات...!!
واشرقت على ملامح علي ابتسامة واثقة وهو يحيي العائدين... ثم تقدم نحو العدو، يضرب بسيفه ليكسر الحصار الذي فرضه المشركون حول النبي.
مهمة صعبة... بل معقدة بالغة التعقيد ، تلك التي ندبه النبي إليها... كان عليه ان يحارب في دائرة صغيرة لا يتعداها..
فالعائدون لم يشكلوا بعد ، خطا ً دفاعيا ً محكما ً... يمكن الوثوق به... فعليه اذن ان لا يذهب بعيدا ً ، فيترك النبي جريحا ً... ونواة جيشه معرضة للانهيار...!
اجل... محدودا ً امامه ميدان المناورة.. ولهذا فقد راح يتلقى السهام من بعيد ، دون ان يستطيع الرد عليها ...!
لكن المدد الالهي... واستبسال علي وعون المؤمنين الذين آبوا الى الله ورسوله ، غير نتيجة المعركة... فانسحب المشركون ، متظاهرين بالاكتفاء بالنصر الجزئي الذي احرزوه...!
توهجت عينا القائد العام لجيش المشركين ببريق الانتصار..! وربت مقهقها ً على كتف قائد الخيالة الذي يعود اليه الفضل في تغيير ميزان الحرب... ثم قال :
- لا يكفي ما تحقق... لا بد ّ ان نعيد الكرة على محمد غدا ً...!
- بدى خالد ابن الوليد اكثر تقديرا ً لعواقب هذا الكلام... فنظر الى أبي سفيان ، دون ان يعلق بشيئ...!... ورغم شعور الاخير باندفاعه الزائد..الا ان سكوت ابن الوليد اثاره..فنادى على احد رجاله ، وقال :
- اقترب من صخرة الجبل ، وصِح باعلى صوتك تُسمع محمدا ً وصحبه : ان حمراء الاسد موعدة بيننا وبينكم...!!
...كانت ارض المعركة لا تزال تموج بدماء قتلى الفريقين...
فعلى سفح الجبل والساحة التي امتدت امامه ، تناثرت اجساد الشهداء.... وقد لاحقت بعضها... الخناجر الوثنية فمثلت بها...!!
وسط تلك الساحة... وقفت امرأة متنمرة يقدح من عينيها الشرر ، واشداقها تقطر دما ً...!!...كانت تحمل باحدى يديها شريحة من كبد انسان... وفي الاخرى سكينا ً مصطبغا ً بالدم...!!... وعلى الارض تمدد جسد ممزق الصدر تبدو على وجهه مخائل الشرف والفروسية...!
مظاهر الوحشية الصارخة... التي لونّت مشاهد نهاية المعركة ، طغت على صور الحزن والالم العميقين ، وانين الجرحى الذي لا يزال يسمع هنا وهناك...!
سنعود اليكم ان شاء الله في الحلقة القادمة..! لمتابعة وقائع هذا القصة..