قبل اصطفاف الجيشين للقتال... خرج يتفقد قواته...
كانت شمس الضحى ترتفع في الافق... و الهدوء النسبي يخيم على الاجواء... لكنه هدوء ، كالسكون الذي يسبق العاصفة...!..فليس بعد فشل مساعي حقن الدماء ، الا توقع بدء القتال ، ساعة قبل اخرى... قتال أيسره ان تسقط فيه الرؤوس و تطيح فيه الايدي..!!
رمى ببصره صوب جيش العدو... ثم عاد ينظر الى قطعات جيشه...
كان امراء الجيش و الجنود ، يمرون بقربه مسَلمين عليه بأمرة المؤمنين...
و ربما سمع من لا يعرفه فأصابه العجب للوهلة الاولى ، متسائلا: اين هي مظاهر الامارة ؟!... لكنه و ما ان يمعن النظر فيه ، حتى يشعر انه امام شخصية استثنائية ، تفرض عظمتها و هيبتها على العدو قبل الصديق... عظمة و هيبة ، نابعة من كيان الشخصية نفسها ، و ليس مما يضفيه عليها عنوانها او لباسها او ما يحفّها من مظاهر...!
كان كل ما عليه: عمامة... و ثوب قديم من قماش رخيص ، توشّح عليه بسيفه... و في قدميه نعل من خوص...
ذلك هو علي ابن ابي طالب ، أمير المؤمنين ، و القائد العام لجيش دولة الاسلام... و هذه هي بزته الحربية..!!
توقف يرقب تحرك جيش العدو ، و خيله التي راحت تجول هنا و هناك...و بعد تأمل قصير ، عرف انه مجرد تحرك لإستعراض القوة...!...فواصل تطوافه...
و من بعيد ، تراآى له شاب في ذروة الشباب مقبلا عليه... فتملاه قليلاً وابتسم... فقد عرف فيه ولده الاكبر... الحسن...
و عندما اقتربا من بعضهما... ابتسم احدهما للآخر... و سارع الحسن يلقي التحية على ابيه... ثم اتسعت ابتسامته ، و هو يشير الى لباسه قائلا:
- ما هذا زي الحرب ؟!.... لامست كلمات الابن مجاس خاصة من نفس الاب ، فتنهد و قال:
- يابُني..!: ان اباك لا يبالي... وقع على الموت أو وقع الموت عليه..!!
كان التعب و السهر ، قد اخذا منه مأخذهما... رحلة طويلة تلك التي قادته و جيشه من المدينة المنورة ، الى ارض المعركة في البصرة...
و كم كانت تنتظره من جهود مضنية لدى وصوله.. فقد بذل كل ما استطاع علّه يحول دون نشوب الحرب ، و سفك الدماء... و لكن دون جدوى..!
و فوق كل تلك الاتعاب... ما ألقته على كاهله من معاناة ، سنون الجهاد الطويلة ، و هموم الرسالة الثقيلة... هذا علاوة على ضريبة العمر الباهضة...!
اجل... فهاهو قد ذّرّف على الستين... و إن كان يبدو في حيوية الشباب !!
.. و لكن... ما بال هذا الشيخ الستيني... ؟!... ان الناظر اليه من بعيد ليحسب انه يخوض صراعاً من نوع ما..!!
و من الزاوية التي نظر من خلالها بدى لاحد امراء الجيش ، ان تطوراً خطيراً طرأ على مجرى القتال...!
لا... لا... لا يمكن ان تخطئه عيناه...!.... فذا هو يشاهد اضطراباً واضحاً في وضع ميمنة الجيش و مسيرته..!
تنبّه حسه العسكري...!...فتلفت باحثا عن القائد...فلمحه على ظهر جواده قد مال رأسه على السرج...يوشك النوم ان يغلبه طورا...وطورا يفيق فيطرده...!
اقترب منه راكضاً و قال:
- تالله ما رأيت كاليوم قط... ان بأزائنا لمائة الف سيف ، وقد هزمت ميمنتك و ميسرتك ، و انت تخفق نعاسا ؟!
افاق القائد تماماً... فهمز جواده ، متقدماً الى الامام ، و هو يهتف بولده الآخر ، الذي كلفه بحمل الراية ، ان يقتحم..!
خفقت الراية مرة و ثانية و ثالثة بيد محمد ، و كأنها تحتفل بانتصار وشيك ...!... ثم تقدمت تحف بها كوكبة من الجنود....
و بغتة...طارت في وجهها رشقات من السهام... فتوقفت... و لم تعد ترفرف و التفت محمد الى اصحابه ، قائلا:
- رويدا ، حتى تنفذ سهامهم..! فلم يبق الا رشقة او رشقتان..!
استنكر القائد... و هو يرصد من بعيد.. تردد صاحب الراية... فعاد ينادي عليه أن تقدم... فيما تواصل رشق السهام و بكثافة ، مزلزلا اشد القلوب جرأة...!!
و احس محمد بأنفاس ابيه تخالط نفسه ، و هو يستل الراية منه بيسراه ، ثم يتقدم صوب العدو ، حاملا سيفه باليد الاخرى..!
و تابعته عيون جنوده ، حتى غاص في معسكر الاعداء.
احتفل قادة الجيش الآخر ، بالنصر المبكر الذي احرزوه... !
و تعالت أراجيزهم... و هزهم الوجد... !
نحن بني ضبة اصحاب الجمل
نبارز القرن ، اذا القرن نزل
الموت عندنا احلى من العسل
نحن بني ضبة لا نفر
حتى نرى جماجماً تخر
يخر منها العلق المحمر
نحن بني ضُ....
- مه..! وقف رجل على جمع المحتفلين و الذعر يطل من عينيه ، صارخاً بهذه الكلمة...... رد عليه احدهم و قد اخذته المفاجأة:
- ما الذي دهاك..؟!... اجاب الرجل و هو على وشك الانهيار:
- راية علي وسط المعسكر..!!
ذهل القوم ، و انعقدت السنتهم للحظات... و جاهد احدهم ليسأل:
- ماذا تقول..؟!........... تشجع ثان ليصرخ محتجاً:
- لقد رأيت بأم عيني اضطراب ميمنة علي و ميسرته...!!
فتصايح الآخرون:
- اجل... اجل... انك لتقول: هُذاءا..!
ادبر الرجل ، و هو يقول:
- ادفعوا عن انفسكم القتل أو الاسر إن إستطعتم...!
نظر احدهم في وجه الآخر بقلق.... ثم انطلقوا بكل اتجاه يستطلعون الخبر...
وقف أمراء جيش علي و جنوده ذاهلون لخطوة القائد هذه...!
و بقدر ما ملأتهم بالقوة و الاعتزاز ، بثت فيهم الخوف ايضاً... !!
فماذا لو قدر للقائد ان لا يعود..؟!
بقيت العيون مشدودة على الدرب ، و مضى الوقت...ولا من جديد...!.. فاشتد القلق ، و تضاعفت الاحتمالات ، و تزايدت التساؤلات:... هل استشهد..؟!....هل اُصيب..؟! هل أُسر...؟!
... و بدت هذه التساؤلات أو بعضها فجة او حتى غبية...! فهل يمكن لاحد ان يمر في خلده ، و لو على سبيل الخيال: ان يقع علي في الاسر ؟!
و فيما راح الامراء يقلبّون الاراء ، بقي التردد هو السائد: ماذا عليهم ان يفعلوا؟! أينبغي لهم التريث أم بدء الهجوم ، لاستقاذ القائد؟!
و فجأة... أطل على ظهر جواده..... !...حتى اذا ما بلغ مقدمة جيشه ترجل... و راح يقوّم سيفه الذي انثنى ، و هو يقول:
- لا تلوموني و لوموا هذا.. !... وفور انتهاءه منه ، امتطى جواده ثانية ... فتصايح الامراء و الجنود:
- نحن نكفيك يا أمير المؤمنين...!.... فلم يجب... بل انطلق نحو العدو ، ليغوص وسط الحشود... !
و عاد الزمن يمر ثقيلا... مخيفاً... مثيراً للقلق... !
بيد ان الانتظار لم يدم طويلا... بل رجع القائد أسرع هذه المرة... فسلم ولده الراية ، و هو يقول:
- الماء..!... الماء..!.... دنى منه شاب من جنوده ، و في يده كأس صغير قائلا:
- يا أمير المؤمنين.. !... أما الماء ، فانه لا يصلح لك في هذا المقام...! و لكن اذوقك هذا العسل..... فشكره ، و قال:
- هات.. !
احتسى الامام حسوة من الكأس... ثم تأمل وقال:
إن عسلك لطائفي...!........أرتفع حاجبا الشاب دهشة و قال:
- لعجباً منك و الله يا أمير المؤمنين ، لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم ، و قد بلغت القلوب الحناجر...!!
فردّ القائد مبتسماً:
- انه و الله ياإبن اخي ، ما ملأ صدر عمك شيئ قط ، و لا هابه شيئ..!
قال ذلك ثم امتطى جواده ، متوجها صوب العدو... فتنادى جنوده فيما بينهم... ثم اندفعوا يعدون خلفه... !
اجل... عملية بطولية فردية... واحدة من سجل بطولاته الضخم... قلبت ميزان القوى بالكامل..!! و مكنّت الجيش الذي كان على شُرف الهزيمة من الامساك بزمام المبادرة..!! فانطلق يكثف صولاته... حتى الحق الهزيمة الكاملة بالعدو..!!
...و فيما كان أفراد الجيش الآخر يلوذون بالفرار... اعتلى منادي الامام ربوة صغيرة هاتفاً بأعلى صوته:
(( لا تتبعوا مدبراً... و لا تجهزوا على جريح ، و لا تدخلوا الدور و لا ترزءوا - اي لا تُصيبوا – سلاحاً و لا ثياباً و لا متاعاً....
.....و من القى سلاحه فهو آمن ، و من أغلق بابه فهو آمن...!!