مرّ الايرانيون - كغيرهم من الامم ذات التاريخ العريف- في مراحل تاريخهم، وطريق تكوينهم بأحداث جسام، وايام مشهودة لم يكونوا ليثبتوا لها لو لم يكونوا يحملون في جوهرهم مقومات البقاء.
فقد الجأتهم ضرورات الحياة الى النزوح عن موطنهم الاول الى هضاب ايران وفلواتها الواسعة المترامية ليتخذوا منها موطناً جديداً اكثر خصباً ورخاء فاشتبكوا مع اهل البلاد في نضال طويل انتهى بغلبتهم، واستقرارهم آخر الامر.
ودارت الايام دورتها فاذا بهؤلاء الفاتحين المتوطنين يدفعون بدورهم عن ارضهم الجديدة عادية المغيرين المحيطين بهم يوافيهم النصر تارة، وتدهمهم الهزيمة اخرى.
وفي غمرات الصراع من اجل الحياة، وحبّ البقاء، وبسطة الملك، وقهر الاعداء، والغلبة على غيرهم من الامم والشعوب، برز من بينهم رجال صارعوا الاهوال، وأبلوا في الحرب والنزال، وقراع الخطوب بلاء جعلهم حديث الحلقات، وسمر الندوات، وتناولت قصص بطولتهم الركبان والجماعات.
وبتوالي الازمان ابتعدت هذه القصص عبر الاجيال عن اصولها شيئاً فشيئاً بما زاد فيها الرواة، ونسجوا حولها من الخيال، فاصبحت اساطير تجمع اشتاتاً من الخوارق والمعتقدات، وصورا مختلفة من حياة الجماعة تدور حول هؤلاء الابطال الذين تمثلت فيهم اماني القوم واحلامهم، ومثلهم العليا، واخلاقهم، واعتزازهم بأرومتهم.
ثمّ ما لبثت ان تلاشت فواصل الزمان والمكان بين هذه الاساطير التي سايرت خطى الدهر كثرة واتساعاً، فاخذت وضعاً ساعد على ترابطها، وجمع شتاتها، وبتبويبها في نسق دقيق، ثم تدوينها، فاذا هي في عقيدة القوم تاريخ الآباء والاجداد، وسجل المفاخر والامجاد.
واتّفق للايرانيين ابان تاجج تلك الروح الحماسية العارمة شعراء اوتوا من دقة الحس، وقوة البيان، ونضج الشاعرية ما جعلهم لسان صدق للتعبير الدقيق عن كل ما كانت تجيش به الصدور، وتختلج النفوس، ومن ثم فقد اتخذوا من هذه الروايات موضوعاً للشعر الحماس، اي شعر البطولة في مظاهرها المختلفة.
فخلعت بذلك الرواية الفارسية ثوبها النثري البسيط وخرجت على الناس في موكب الشعر، وضجيج موسيقاه ولكن دون ان تفقد شيئاً من اصالتها وطابعها، ومن غير زيف في جوهرها، فصارت اقرب الى الطباع، والصق بالقلوب.
وهكذا فان الملحمة الفارسية كغيرها من ملاحم الامم الاخرى –ليست الاّ الصورة الشعرية الصادقة البارزة القسمات، القوية التعبير لروايات المجد، والبطولة، والمغامرات ايّاً كان ميدانها، وعلى اية صورة كانت، يستوي في ذلك ان يكون موضوعها حربياً، او عاطفياً، او دينياً، او فلسفياً الى غير ذلك من المواضيع التي تكون مجالاً لبطولة الافراد او الجماعات.
والملحمة - بصفة عامة- تمثل مجموعة من اعمال البطولة لفرد او جماعة تتكون منها رواية مترابطة الاجزاء كاملة تبدأ من نقطة، وتنتهي عند غاية، وعمل الشاعر لحم اجزائها، ونظم وقائعها دون التدخل فيها او توجيهها، فهو يعرض احداثها عرضاً فنياً، ويصف مشاهدها وصفاً شاعرياً يستولي على النفوس، ويستهوي الافئدة، ويلذّ الاسماع من غير ان يمسّ جوهرها، او يبتعد بها عن اصلها.
وقد عُرفت كتب الروايات والملاحم في الادب الفارسي ـ (الشاهنامات)، اي كتب الملوك، ولا غرابة في ذلك لان ابطالهم - كما تصورهم هذه الكتب- كانوا ملوكاً ذوي عروش وتيجان يدينون لملكهم الاكبر بالاخلاص والولاء، فيتفانون في خدمته، ويحاربون تحت رايته، ويستمدون وجودهم من التفافهم حول عرشه، والتضحية بالمهج والارواح من اجله، له الامر وعليهم الطاعة.
والحديث عن هذه الشاهنامات ينصرف بالاذهان عادة الى ملحمة الايرانيين الكبرى التي استكملت كل مقومات الملاحم الحية الخالدة واستوعبت شتى مواضيع الحياة، ونقصد بهذه الملحمة طبعاً شاهنامة الفردوسي، فهي بحق ملحمة امة، وحياة شعب، وقلب شاعر..
كانت شاهنامة ابي مؤيد البلخي وابي منصور التي اشتقت مادتها من الكتب الفهلوية القديمة، وروايات الموابذة والدهاقين، كانت باتفاق الروايات المصدر الاساس الذي عوّل عليه الفردوسي في نظم شاهنامته.
وقد اوجز الفردوسي قصة جمع، وتدوين شاهنامة ابي منصور في الابيات التالية التي ترجمت نثراً، فلنستمع الى ما يقوله الفردوسي بهذا الخصوص:
(كان من آثار الغامرين كتاب مملوء بالقصص، تقسّمته ايدي الموابذة، وحرص كلّ عاقل على قطعة منه، وكان من نسل الدهاقين رجل عاقل ذكي جواد، يتحرى آثار الاولين، ويتبع قصص الماضين، فدعا اليه كل موبذٍ حنكته السنون، وسألهم عن انساب الملوك والابطال النابهين، وكيف صرفوا امور العالم من قبل ثم خلوه لنا صاغرين؟ وكيف مهّد لهم الجدّ فملؤوا الايام بمآثرهم؟ فقصّ عليه هؤلاء الكبراء قصص الملوك، واخبروه من غير الزمان، فلما سمع منهم شرع يؤلف من ذلك كتاباً عظيماً، فترك ذكراً ذائعاً في الآخرين، واثنى عليه الاكابر والاصاغر اجمعين...).
وتتلخص قصة الشاهنامة في ان اهل خراسان وامراءها وجهوا همتهم في النصف الاول من القرن الرابع الهجري الى جمع اخبار ملوك ايران، وتاريخها، فاجتمعت لهم اسفار عُرفت فيما بعد بـ (الشاهنامة) او كتاب الملوك، وكان اكثر هذه الكتب ذيوعاً وشهرة شاهنامة ابي المؤيد الشاعر البلخي، وشاهنامة ابي منصور والي طوس واقبلَ الناس على هذه الكتب ايّما اقبال، وصارت مادة للسمر والشعر على السواء.
وفي حدود عام تسعة عشر وثلاثمائة من الهجرة وفي قرية من قرى طوس أهَلَّ وليدٌ في بيت احد فلاحيها لم يبلغ اشدّه حتى ظهرت عليه امارات الشاعرية، وداعب خياله قصص الملوك والابطال ألا وهو شاعر الايرانيين الملحمي الكبير ابو القاسم الفردوسي.
ولما ناهز الخامسة والثلاثين اي في عام اربعة وخمسين وثلاثمائة للهجرة اذا به شاعر ناضج طموح حدت به قريحته، وموهبته الشعرية الى ان ينظم ملحمة كبرى للملوك والابطال، فاندفع بحماس في هذا الطريق، وعمد الى نظم شاهنامة ابي مؤيد البلخي.
واكبر الظنّ انه لم يكن - بادئ الامر- يقدر حق التقدير الجهد والسنين الطوال اللازمة للنهوض بمثل هذا العمل الجسيم، فما شرع في نظم هذا الكتاب وقطع فيه شوطاً حتى وجد نفسه امام سيل جارف من قصص الابطال والملوك تجري على ألسنة الناس، فكان يغترف من هذا وذاك ما يكمل به نقص المصدر الذي بين يديه.
*******