حيث الفصاحة والبلاغة، والكلمة الطيبة المعبرة، والحكمة المغلفة بوشي البديع، وحسن الصينع.
من بين شعراء الفارسية العظام الذين تركوا بصماتهم الواضحة، وآثارهم العميقة على الادب الفارسي على مر العصور بفضل ما خلفوه من روائع.
الشاعر الكبير مسعود بن سعد بن سلمان الاسوري الذي يعد من شعراء النصف الثاني من القرن الخامس، واوائل القرن السادس الهجري، ويعتبر ركناً قوياً من اركان الشعر الفارسي.
اصله من همدان الا انه ولد في لاهور خلال الفترة من 438 وحتى 440هـ، وكان والده من عمّال السلاطين الغزنويين وجباتهم مما مهد الطريق امامه كي يصبح من رجالات الدولة الغزنوية ايضا.
الا انه ترك معترك السياسة، وزجّ بنفسه في خضم وقائع الدولة الغزنوية مما ألّب الصدور عليه فدخل السجن لمدة عشر سنوات ابان فترة حكم السلطان ابراهيم الغزنوي التي امتدّت من عام 450 وحتى 493هـ.
وسجن مرة اخرى مدة ثماني سنوات في عهد السلطان مسعود بن ابراهيم الذي حكم من سنة 493 حتى 509هـ.
ولقد اثرت هاتان الحادثتان في شعره تأثيراً كبيراً وعميقاً، الامر الذي حفزه على ان يرفد الادب الفارسي بعدة قصائد فريدة من نوعها في هذا الادب استحوذت على اهتمام واعجاب النقاد في مختلف العصور.
عمل مسعود سعد حتى آخر سنوات عمره اي حتى عام 515هـ في ادارة وتسيير امور مكتبات سلاطين غزنة، وكان يتمتع بقدر كبير من الفصاحة.
وقد اشتهر باسلوبه المحبب، وكلامه البليغ المؤثر، فلا يمكن انكار مقدرته على بيان المعاني الرقيقة، والتخيلات الدقيقة، والمضامين الجديدة من خلال كلمات فصيحة ومنتقاة.
مهارته معروفة في حسن التنسيق والتناسب بين التراكيب، وابتكار التعابير الجديدة، والتركيبات البكر، والاوصاف الرائعة التي لم يسبقه اليها احد.
حظيت قوة التأثير في شعره (خاصة في حبسياته الرائعة التي نظمها خلال الفترة التي ابتلي فيها لمدة ثمانية عشر عاماً بالسجن باهتمام خاص منذ العصور القريبة من عهده).
وقد تم جمع ديوانه خلال حياته على يد الشاعر الكبير سنائي الغزنوي، واعتبر ديوانه من اهم مراجع اساتذة الكلام وخصوصاً قصائده التي بثّ عبرها حزنه وشكواه، وانينه بسبب فقدانه لحريته، ووشاية الاعداء والحساد به، والتي تعدّ بحق من روائع الشعر الفارسي، والتي تذكرنا الى حد كبير باشعار ابي فراس الحمداني التي انشدها خلال فترة اسره على يد الروم، وتخلي من كان يحسبهم عماده وسنده عنه.
سنختار لكم فيما يلي بعض المقطعات من حبسيات الشاعر مسعود سعد سلمان مترجمة شعراً الى اللغة العربية يبدو الشاعر السجين في طائفة منها قوياً، مستهيناً بالمخاطر، والاحداث التي من شأنها ان تهد عزائم الرجال فنراه يقول تارة:
ما على عزمي المتين اذا ما
خرّ من قسوة الحصون الرهيبهْ
فأنين الفؤاد يعلو وئيداً
انهكتْ عزمه، وزادت وجيبَهْ
الا ان الضعف البشري ما يلبث ان يتسلل الى قلب شاعرنا وهو يرى نفسه حبيساً بين اسوار (قلعه الناي) الشاهقة ذات الحجارة الصماء، بل انه يطلق العنان لدموعه، فتسيل معلنة خوارعزمه، وكاشفة عن لحظات ضعفه فيطلق عقيرته بالانين والشكوى قائلا:
قلعة الناي، يا حصوناً أفاضتْ
دمعَ عيني، وكان قبلُ عنيدا
فالهواء المخزون اتعب صدري
فهمى الدمع من عيوني نشيدً
أوَ ما كِدتَّ ايّها الفلك الدوّارُ
تقضي من العذاب عَلّيا؟ّ!
وأتاني الشعرُ الحبيبُ عزاءً
عدتُّ من نظمه القويّ قويّا
وهكذا يستمد الشاعر قوته، ويستعيد مقاومته وصموده، وهو يرى نفسه ربّ الكلام، وسيد القوافي، وفارس النظم والانشاد، والتعبير عن خلجات النفس، فيعود اليه شيء من عزمه، ويقبل نحوه قدر من عزائه، فيحاول ان يتعالى على الالم والمحنة قائلا:
لن تهدّ السجونُ يوماً بنائي
لا ولن يدرك العذابُ قضائي
ان قدْري في السجون يعلو، وجاهي
وغداً يعلم الزمانُ ابائي
هامتي تنطح السحاب، واني
بابائي فوق الثريّا اسير
جاريَ البدرُ والنجومُ رفاقي
وكما شيئت في مداها أطيرُ
ويفتخر الشاعر ويزهو حتى بدموعه لانها تحولت بصدقها وواقعيتها الى كلمات خالدة، وابيات رائعة سيخلدها الدهر، ويجعل منها لآلئ ودرراً يسرّ الناظرين مرآها كما يؤكد ذلك في قوله:
انثر الدرّ واللآلئ حيناً
وبزهو اختال حيناً، وحيناً
من كنوز الدموع اهدي اليها
لؤلؤاتٍ تسرُّ منها العيونا
ولا ينكر شاعرنا السجين وهو يعيش بكل وجوده غمرات المحنة والمعاناة، والالآم التي لا تطاق ان الهموم والاحزان قد هدّت كيانه فجعلته يبدو خائر العزيمة في بعض الاحيان، مستسلماً منقاداً لضعفه البشري، الا ان عزاءه الوحيد في ذلك، والدرع الذي يقيه من شماتة الاعداء هو انه انما ابتلي بالذلّ بعد عزّ، وانه لم يكن قبل ذلك جديراً بهذه الحالة التي آل اليها:
ان يكُ الحزنُ قد أساء لطبعي
واعتراني منه الهزالُ قليلا
لم أكن قبل بالهموم جديراً
لا ولا كنتُ للدموع خليلا
الا ان هذه الحالة انقلبت الآن، فاذا بالمصائب والمحن تعصف بكيان الشاعر فتهدّ كيانه، وتتركه هزيلاً ضعيفاً امامها، وتخرس لسانه فيحير لمن يبث شكواه وهمومه، ايبثها للجدران الصماء، والحجارة القاسية الكأداء؟!
فلنستمع الى شاعرنا مسعود سعد سلمان وهو يطلق قريحته في لحظات ضعفه ووهنه:
وأنا الآن هدّني ما أُعاني
فتراني كأنمّا لا تراني!
كاد ما في جوانحي من عناءٍ
ومن الحزن ان يكلّ لساني
لحظة لا أطيق حتى نشيداً
حينما لا أرى لقولي سميعا
ان يكن ما سوى الجدار امامي
فلمن أُرسل النشيد البديعا؟!
*******