نحن الان مع المقطع الاخير من الدعاء المعروف ب (عالي المضامين)، حيث يتضمن التوسل الاتي (اللهم ارزقني عقلاً كاملاً، ولباً راجحاً، وعزاً باقياً، وقلباً زاكياً، وعملاً كثيراً، وادبا بارعاً، واجعل ذلك كله لي، ولا تجعله علي، برحمتك يا ارحم الراحمين).
هذا المقطع كما نلاحظ يتضمن توسلاً بالله تعالى من حيث السمات الشخصية لقارئ الدعاء، وهي سمات عقلية ونفسية واجتماعية، نبدا بالقاء الاضاءة عليها بحسب تسلسلها في مقطع الدعاء، وفي مقدمتها: العبارة المزدوجة القائلة (اللهم ارزقني عقلاً كاملاً، ولبا راجحاً).
والسؤال المهم هو: ما هو الفارق بين العقل واللب، ولماذا وسم الدعاء (العقل) بالكمال، ووسم (اللب) بالرجحان؟
بالنسبة الى الفارق بين (العقل) و(اللب) هو: ان العقل هو ادراك الحقائق بنحو مطلق سواء اكان الادراك عاديا او متفاوتاً من واحد الى آخر، بينما (اللب) هو الفعل الفائق او المتفوق او الذكي،... ولذلك نجد ان القران الكريم طالما يستخدم عبارة (اولي الالباب) بدلا من (اولي العقول): تاكيداً للفعل الفائق المتميز الذي يدرك الامور بذكاء غير عادي من هنا قيل ان كل لب هو عقل وليس كل عقل هو لب.
وفي ضوء الحقيقة المتقدمة، نتجه الى معرفة السبب الذي جعل هذا المقطع من الدعاء يتوسل بالله تعالى بان يرزق قارئ الدعاء (عقلاً كاملاً) بينما يتوسل بان يرزقه تعالى (لباً راجحاً) فما هو السر الكامن وراء ذلك؟...
لقد توسل الدعاء بالله تعالى بان يرزق قارئ الدعاء (عقلاً كاملاً)... فلماذا وسم العقل بالكمال؟
الجواب: بما ان العقل هو ادراك الحقائق بنحو عام، حينئذ فان العقل لا مناص بان يكون (كاملاً) حتى تدرك الامور بتمامها،... وسبب ذلك ان العقل اذا كان هو ادراك الشيء: فان الادراك قد يكون قاصراً او ناقصاً: كما لو كانت درجته اقل من المتوسط، اي: ان العقل الكامل هو العقل التام غير الناقص: كالتخلف العقلي مثلا او البلاهة او البلادة ونحو ذلك.
واما بالنسبة الى (اللب) فان اللب بما ان معناه هو: الذكاء او التفوق العقلي حينئذ يتسم بما هو راجح على غيره وليس بما هو كامل،... والسر وراء ذلك هو: ان العقل اذا كان من جانب كاملا، وكان من جانب آخر راجحاً على غيره: حينئذ فان الذكاء يدفع الشخصية الى ادراك اشمل من الادراك العادي للامور، فمثلاً: اللب او الذكاء يدفعان الشخصية الى ادراك الامور بنحو يختلف عن العقل العادي: فمثلاً: ان ذوي الالباب من الاشخاص يدركون ان الآجل من السعادة افضل من العاجل منها، اي: يدركون بان الاخرة هي افضل من الدنيا، ولذلك يفضلون شدائد الدنيا ولا يتعجلون الراحة فيها بل يصبرون على ما يعانون من شدائد الحياة كالفقر او المرض او المشكلات الاجتماعية.
بعد ذلك يتجه الدعاء الى طرح مفردة ثالثة هي: التوسل بالله تعالى بان يرزق قارئ الدعاء (عزاً باقياً) والسؤال هو: لماذا وسم الدعاءالعز بسمة البقاء؟ وهل يقصد بذلك عز الدنيا ام الاخرة؟
في تصورنا ان العز هو اثر نسبي، فمثلاً: وردت النصوص بان المومن عزيز لا يذل نفسه، ولكن وردت النصوص ايضاً بان المؤمن يفضل ذل الدنيا على عزها اذا كان العز مقترنا بلانحراف عن الدين هذا من جانب... من جانب آخر: نحتمل بان الدعاء يستهدف الاشارة الى ان العز حتى في الدنيا يتوافق وعزة الاسلام، اي: بما ان الله تعالى عزيز، فان العزة له تعالى ولرسوله وللمؤمنين، اي: التعزز بعزة الله تعالى تبعا لما ورد بان المؤمن يتعزز بعزة الله تعالى، او بما ورد من ان الاسلام يعلو ولا يعلى عليه.
اذن: العز الباقي هو: ان يظل قارئ الدعاء مشمولاً طيلة حياته واخرته، بسمة العز دون ان يتم ذلك بذل، او بمعصية ونحو ذلك.
ختاماً: نساله تعالى ان يمنحنا عزاً باقياً، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.