لا نزال نحدثك عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا ممهل، يا مجمل). هاتان العبارتان او المظهران او الاسمان من اسماء الله تعالى، خُتم بهما مقطع الدعاء، وهذا ما نحدثك عنه الآن، حيث نبدأ بالاول منهما، وهو (يا ممهل). فماذا نستخلص من الاسم المذكور؟
نعتقد بان قارئ الدعاء طالما مرّ الاسم المتقدم عليه، في القرآن الكريم وفي النصوص الحديثية الكريمة، ومعناه: ان الله تعالى (يمهل) ولا (يهمل): كما ورد بهذه الصيغة ونتساءل من جديد ما هي النكات الكامنة وراء المظهر المذكور؟
ان المنحرفين، كفاراً كانوا او فاسقين، عندما يمارسون الانحراف، فان الممارسة المذكورة قد يُعفى عنها من خلال غفران الذنب (في حالة ما اذا كان الانحراف صادراً عن الشخصية المسلمة او المؤمنة بتعبير آخر).
ولكن بالنسبة الى المصرين على انحرافاتهم، فان الامر سيختلف حينئذ، ونعني بذلك ان الله تعالى قد يعجل بعقوبة المنحرف او بعقوبة الكافر، وقد يؤجل ذلك الى اليوم الآخر، وهذا يعني ان المنحرف المصرّ على الذنب او الكافر لا يسلم من عقوبة الله تعالى، وانما يؤجل ذلك، حيث لا مفرّ من الله تعالى، ولا يفوت الله تعالى أحد. اذن ان الله تعالى (يمهل) المنحرف، ولا يهمله، وهذا تنبيه او تحذير لمن يُخيّل اليه ان الله تعالى لا يعاقب المنحرفين.
ونتجه الى العبارة الاخيرة وهي (يا مجمل). فماذا نستلهم منها؟
(المجمل) اسم فاعل من (أجمل) ومعناه: حسّن الشيء او كثر الشيء، او تلطف، او اعتدل: بمعنى عدل في الشيء واذا نقلنا هذه الدلالة اللغوية الى احد مظاهر عظمة الله تعالى، حينئذ فان الاحسان واللطف والعدل وتكثير الخير، تظل هي المتبادرة الى ذهن قارئ الدعاء، فاذا ربطنا الاسم المذكور بما قبله من العبارات، وهي: (يا ممهل) حينئذ فان الاعتدال او العدل يتجانس مع الدلالة المذكورة، اي: ان الله تعالى في معاقبته للمنحرفين، انه لا يجور في الحكم، وهو: صفة الكمال عند الله تعالى.
كذلك يمكننا ان نستخلص الدلالات اللغوية الاخرى مثل: الاحسان، اللطف، فانه تعالى: المحسن واللطيف، انه: لا يظلم احداً، انه المحسن في الحالات جميعاً، واللطيف في الحالات جميعاً.
بعد ذلك نتجه الى مقطع جديد، على النحو الآتي: (يا من يرى ولا يُرى، يا من يخلق ولا يُخلق، يا من يهدي ولا يُهدى، ...). فماذا نستلهم من العبارات المتقدمة؟
واضح ان الله تعالى (موجود) أزلي، لا بدء له ولا نهاية، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، واذا كان الامر كذلك، فهذا يعني: انه غير (حادث)، ويعني ـ من ثم ـ انه تعالى غير مرئي، انه (لا يُرى) تبعاً للحقيقة المتقدمة ولكنه (يرى)، وهذه هي النكتة، اي: ان قارئ الدعاء عندما تمر على ذاكرته هذه العبارة تتداعى الى ذهنه حقيقة انه تعالى منزّه عن مجانسة مخلوقاته، ولكنه مطلع، عالم، سميع، بصير، بمخلوقاته، يراقبهم، ويرتب اثراً على ذلك، مما يعني: ان مخلوقاته وفي مقدمتهم (البشر) ـ ومنهم قراء الدعاء الحالي ـ سوف يتجدد وعيهم بعظمة الله تعالى، وبمراقبته لأعمالنا، وهذا يدفعنا الى التفكر في ممارساتنا، وعرضها للمحاسبة، لنستكثر عمل الخير اذا كنا من خلال المحاسبة قد صنعنا خيراً، ونتوب الى الله تعالى اذا كنا عملنا شراً والعياذ بالله تعالى.
*******