لا نزال نحدثك عن الأدعية المباركة ومنها: أدعية الامام المهدي (عليه السلام) حيث حدثناك عن مقاطع متنوعة منه، وانتهينا الى مقطع يقول: (اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واوحشني من الدنيا وآنسني بالاخرة)، ثم يقول: (فانه لا يوحش من الدنيا الا خوفك ولا يونس بالاخرة الاّ رجاؤك) .
لقد حدثناك عن استهلال هذا المقطع سابقاً اما الاّن فنحدثك عن العبارتين القائلتين: (فانه لا يوحش من الدنيا الاّ خوفك)، (ولا يونس بالاخرة الا رجاؤك) . اذن لنحلل هاتين العبارتين؟
العبارة الاولى تقول: (لا يوحش من الدنيا الا خوفك)، ترى ما هو الخوف وعلاقته ب الوحشة؟
واضح ان الدنيا مادامت محفوفة بالزينة وبالزخرف وبالمتاع حينئذ فان المنحرف يأنس بها بخلاف المؤمن، ان الزينة سواءٌ كانت مباحة او محرمة تظل في الحالات جميعاً مقترنة بالامتاع، كل ما في الامر ان المؤمن لا يأخذ من الدنيا الا الكفاف. ما عدا ذلك فإمّا يظلّ مكروهاً او محرماً، ولعل المال والجنس والموقع تظل اشد الامتاعات او الزينة الحاحاً، فالمؤمن يكتفي من الجنس مثلاً بالزواج ومن المال بقدر الكفاف ومن الجاه او الموقع بما يخدم الآخرين، الا تجاوز الكفاف يتحوّل الى مكروه: كالمحادثة غير الضرورية مع النساء مثلاً او يقتاد الى المحرّم: كالممارسة غير المشروعة وهكذا. من هنا، يتحسس المؤمن ان ما عدا الكفاف يظل لهواً وعبثاً مقترنا بالمحرّم، وكلها تعد ظواهر موحشة بالنسبة اليه، اي: يستوحش من الممارسات غير الشرعية وغير الضرورية وهذا ما عناه الامام المهدي (عليه السلام) حينما اوضح بأن الدنيا موحشة.
والسؤال الآن هو: ماذا يترتب على ما تقدم من العبارة القائلة: (فانه لا يوحش من الدنيا الاّ خوفك)؟
لا نحتاج الى كثير حتى ندرك بوضوح بأن (الخوف) من الله تعالى سواء كان الخوف من عقابه تعالى او من عدم رضاه تعالى: هذاالخوف هو الذي يقتاد المؤمن الى نبذ زينة الحياة الدنيا والاستيحاش منها، وقد يتصاعد الاستيحاش الى اعلى درجاته عندما يَعِمُّ الانحراف جميع الناس او أغلبهم مثلاً، وهو ما نجده قد تجسّد في اصحاب الكهف حينما استوحشوا من الدنيا، وآنسوا بالعزلة: كما هو واضح: وهذا فيما يتصل بعبارة: (فأنه لا يوحش من الدنيا الا خوفك)، ولكن ماذا بالنسبه الى عبارة: (ولا يؤنس بالآخرة الا رجاؤك) ؟
واضح ايضاً مادام (الخوف) من العقاب اوعدم رضاه تعالى هو الباعث على الاستيحاش من الدنيا، فان العكس هو الصحيح ايضاً حيث ورد في النصوص الشرعية ان المؤمن يجمع بين الرجاء والخوف بحيث لا يزيد احداهما على الآخر، يعني: الخوف من العقاب والرجاء بالثواب، وفي ضوء هذه التوصية من الامام المهدي (عليه السلام) يقتبس أو بالأحرى يُعَبِّرُ عن الحقيقة المذكوره بالفقرتين المتقدمتين من الدعاء. لذلك فان النتيجة تضل على النحو الاتي: ان الرجاء او الحرص على ارضاء الله تعالى تجنب عقابه هو: المؤنس للشخصيه من خلال (خوفها) من عدم رضاه تعالى وعقابه: كما قلنا.
بعد ذلك نواجه مقطعاً جديداً هو: (اللهم لك الحجة لا عليك واليك المشتكى لا منك، فصل على محمد وآله وأعني على نفسي الظالمة العاصية، ... ). هذا المقطع من الدعاء يتضمن جملة نكات نحدثك عنها ان شاء الله تعالى في لقاءات لاحقة، سائلين الله تعالى ان يوفقنا الى الاستيحاش من الدنيا والانس بالآخرة وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.