نواصل حديثنا عن الأدعية المباركة، ومنها دعاء الامام المهدي (عليه السلام) الخاص بقراءته يوم عاشوراء، حيث حدثناك عن مقاطعه المتنوعة، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه التوسل بالله بأ ن يرزق قارئ الدعاء: (رزقاً واسعاً حلالاً طيباً مريئاً دارّاً سائغاً)، الى ان يقول: (فاضلاً مفضلاً، صبّاً صبّاً، من غير كدٍّ ولانكدٍ ولامنّه من احد، ...).
ان هذه الاوصاف التي ذكرها الدعاء بالنسبة الى الرزق، حدثناك عن بعضها في لقاء سابق ونحدثك الآن عن البعض الآخر، الذي يبدأ بعبارة: (فاضلاً مفضلاً)، فماذا نستلهم من هاتين الصفتين؟
قبل ان نحدثك عن المقصود من كلمة (فاضل) و (مفضّل)، يجدر بنا ان نذكرك بما سبق ان كررناه من ان الدعاء بنحو عام يتميز بكونه يتضمن الحاجات وطرائق اشباعها بأعلى المستويات وهو اثر لايتنافى مع التوصيات بالزهد، والتوصيات بتحّمل شدائد الحياة، حيث ان لكل موضوع سياقه الخاص، ومن ثم فان استجابة الدعاء للافضل من الاشباع يظلّ مرتبطاً بما هو الاصلح للانسان، حيث ان البعض من الاصلح له أن يغتني مثلاً، والبعض ان يقتر عليه الرزق وهكذا، ولكن خارجاً عن ذلك فان التوسل بالله تعالى بأن يدفع الشدائد يظل حاملاً مسوّغاته ومنه: الرزق وفق مالاحظنا ونلاحظ الآن من التوسل بالله تعالى بأن يجعله على مستوياتٍ عاليةٍ من الاشباع، ومنه ان يكون (فاضلاً)، (مفضلاً)، وهذا ما يقتادنا الى طرح السؤال من جديد وهو: ماذا نستخلص من المفردتين المذكورتين؟
من البين ان المقصود بـ (الفاضل) هو: الفائض، ولكنه في سياق: ان يرمز الى الاشباع التام بحيث لا يتخلله نقص في حالات خاصة مثلاً: ونكرر الآن ان لامانع من أن يكون الرزق فاضلاً عن الحاجة بالرغم من ان التوصيات الاخرى تطالب بالكفاف، اي بعدم الزائد عن الحاجة، وفقاً لما اوضحناه قبل قليل.
واما المقصود من (مفضلاً) او (فاضلاً) فانه من (الافضلية) كما نحتمل ذلك اي: ان صفه (الفاضل) تعني (الكمّ) وصفه (المفضل) تعني (الكيف) وهذا يعني: ان الرزق قد يكون واسعاً ولكنه مصحوبٌ بالتعب او بصعوبة التعامل، ووفقاً لمبدأ الاشباع بما يريده الله تعالى لهذا العبد او ذاك من حيث السعة والتنوع فأن الرزق (المفضل) يكسب مشروعية التوسل بالله تعالى على تحققه.
بعد ذلك نواجه عبارتي: (صبّاً صبّاً) ونحسبك تدرك تماماً بان (التكرار) يجسد نمطاً بلاغياً هو: التلويح بأهمية الشيء المطلوب، ولذلك فأن التكرار لكلمة (صبّاً) دون سواها، وهي التي تعني: انصباب الرزق كانصباب المطر او الشلال مثلاً، او ترمز الى استمرارية تدفقه بشكل عام، هذا التكرار لمفردة (صبّاً) يرمز بوضوح الى استمرارية تدفق الرزق.
بعد ذلك نواجه (من غير كدٍّ ولانكدٍ)، فماذا نستلهم منها؟
(الكدٍّ) هو: التعب واما (النكد) فهو: العسر بعامة، او الرزق المصحوب بالشدة، اي شدة الحصول عليه ولو كان واسعاً .
ولعل الاوصاف المتقدمة تظل بالقياس الى الوصف او الصفة الاخيرة التي ختم بها موضوع الرزق، وهو عبارة: (ولامنة أحدٍ)، تظل هذه الصفة من أهم الصفات أو المستويات التي ترتبط ب الرزق، ولذلك نتساءل: كيف ذلك؟
الجواب: ان المؤمن عزيز، وقد فوّض الله تعالى للانسان كلّ شيء الا اذلال نفسه، ولذلك فان الآخر (وهو الطرف الذي يتعامل مع قارئ الدعاء)، اذا كان ممّن (يمُنُّ) ويذل قارئ الدعاء، في طبيعة تعامله: حينئذٍ فأن امثلة هذا الرزق تخدش الشخصية الاسلامية: كالموظف الذي يهينهُ رئيس الدائرة مثلاً، او يمُنُّ عليه بأنه صاحب الفضل، يظلّ هذا النمطُ من التعامل المصحوب بالمّنة مما يتنافى وكرامة الشخصية المؤمنة التي تستمد عزتها من الله تعالى.
اذن امكننا ان نتبين ولو سريعاً جانباً من النكات الكامنة في العبارات التي استخدمها الدعاء في عرضه لموضوع الرزق ومستوياته، سائلين الله تعالى ان يجعل ارزاقنا كذلك، وان يوفقنا الى ممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.