بسم الله الرحمن الرحيم إخوتنا المستمعين الأكارم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم أجمل تحية محملة بالحب والمودة ونحن نلتقيكم عند حكاية أسطورية أخرى من حكايا الأمم والشعوب محاولين إستكشاف الخفايا الكامنة وراءها وتقديمها اليكم في إطار القصة والرواية راجين أن تحظى بحسن متابعتكم.
إخوتنا المستمعين من الأساطير التي عبّرت الشعوب من خلالها عن حب الإنسان الغريزي لموطنه ومسرح طفولته وذكرياته وأن هذا الحب قد يبلغ في بعض الأحيان مبلغاً يصنع المعجزات حتى يتجسّد ذلك الشوق الصادق والرغبة العارمة في العودة الى احضان الوطن واقعاً فعلياً خاصة اذا كان الإغتراب عن الوطن قسرياً مفروضاً على الإنسان. من هذه الأساطير السطورة الصينية الجميلة المعبّرة "هروب الرسّام لي" التي ندعوكم لمتابعة أحداثها لحلقة هذا الأسبوع من حكايا وخفايا.
أيها المستمعون الكرام إن الحكاية التاريخية المشوقة للرسّام لي تتشام تشاو الرسّام الذي كان يعيش في أزمان سحيقة والذي هرب من القصر الإمبراطوري وإختفى ولم يعرف عنه أي شيء أبداً منذ ذلك الحين. تروي الأسطورة أن لي ولد في منطقة رطبة خضراء وإن كانت حياته الطفولية سعيدة قضاها بين المروج الرمادية والبيضاء والأشجار المزهرة وفي قريته الساحرة ومع والديه الفلاحين المسنين ومع النهر الرقراق بين سهول القصب والخيزران، كان ذلك يمثل كل فرحه وحياته، حتى في نومه كان يضحك وهو يحلم بالشمس البلورية على الحقل ومنذ صغره كان يرسم الأسماك والعصافير بالحجارة التي غسلها النهر، يرسم القطيع والرعاة وهم يسرحون بالأغنام بين المروج الخضراء وكانت ريشته السحرية تسجل تخيلاته الطفولية وهكذا ترعرع لي بين القرى والضيعات القريبة وكان الجميع يتحدثون عنه ويأتون ليرون رسومات الفتى الفنان فلقد أخذت شهرة موهبته تتسع وتطبق الآفاق حتى وصلت الى قصر الإمبراطور.
ثم إن الإمبراطور مستمعينا الأفاضل بعث في طلب لي فما كان من لي إلا أنه لبّى الطلب إذ ركع امام الإمبراطور إبن السماء ثلاث مرات ولمست جبهته الأرض ثلاث مرات. عندها خاطبه الإمبراطور قائلاً: عليك أن تبقى هنا لتعمل على زخرفة ممرات القصر وصالاته وقد أمرت أن تهيء لك إحدى الصالات كمرسم جهزته بالألوان واللوحات والأخشاب الرائعة. ستتغير حياتك إعتباراً من اليوم ولن تعود الى هناك حيث ولدت. أصاب لي حزن عظيم لأنه لن يتمكن بعد ذلك من رؤية منزله في الضيعة الساحرة الخلابة ذات الأشجار المزهرة على ضفتي نهر الصافي فأصبح قدره أن يحلم بسعادة الريف وهو محجوز سجيناً في صالات القصر المحاط بتنينات ضخمة من الأحجار.
نعم أيها الأخوة والأخوات أخذ لي يعمل بلا توقف كي يرضي الإمبراطور حتى ملئت رسوماته جدران الغرف والأبواب الخشبية والحديدية وأسوار المعابد وصالات التشريفات لكن تفكيره كان يحلق بعيداً في الأرض الخلابة الرطبة التي عاش فيها بسعادة غامرة لاتفوقها سعادة أخرى. وفي ذات يوم رسم لي لوحة كبيرة رائعة الجمال ضمّنها السماء الصافية لطفولته وحقل المروج والجسر الصغيرة المصنوعة من الجذوع فوق النهر الذي يكتنفه قصب خيزران الضيعة البيضاء. وفي أعماق السماء كان طيران البط البري وشمس الفجر الحمراء واللون الأخضر الناصع والعشب المبلل بقطرات الندى، كانت لوحة كبيرة ورائعة جاء لرؤيتها الأمراء وكبار الموظفين. كانت معلقة في إحدى الصالات الفاخرة في القصر وبدت كأنها نافذة مفتوحة من الجدار الصلب على مشهد الريف الأكثر حلاوة وعذوبة.
كان لي في الحقيقة قد صنع أفضل أعماله التي حملها دائماً في تفكيره وفي احلامه، لم تكن تبدو له كلوحة من بلاده إنما بلاده كلها قد وضعت في اللوحة بشكل معجز لذلك كان يقضي ساعات طويلة أمامها ليتأملها من بعيد ويشم من خلالها هواءها النقي المحمل بشذى الأزهار. لكن الرسّام المقيد بأغلال العبودية المفروضة عليه لم يكن بمقدوره أن يدخل الصالات الكبيرة المخصصة للحفلات وإستقبالات الأمراء والنبلاء، كان عليه أن يعيش ويعمل في ورشته منسياً من الجميع وطالما تمنى لي أن يستطيع رؤية لوحته ولو من عبر شقوق الأبواب. وفي ذات يوم كان الحرّاس والخدم غائبين فدخل لي وإنتزع لوحته التي تروي حكايات الجمال عن الريف الأخضر ومضى بها بين الممرات المعتمة ليخبأها في مشغله حيث يستطيع تأملها والحسرات تقطّع قلبه.
إنطلقت صافرة الخطر في انحاء القصر وإنكدت الصيحات في أنحاء المدينة وهي تعلن عن إختفاء اللوحة العظيمة. كان الإمبراطور يشتاط غضباً ويهدد ويتوعد وأمر بنشر ألف جندي يبحثون عن السارق، دخلوا كل البيوت وفتشوا كل الأماكن وأخيراً عثروا على اللوحة في مرسم لي وقد خبأها بين الألواح وأقمشة الكتان. أمر الإمبراطور بسجن لي وأن يستمر بالرسم من داخل سجنه ليكمل زخرفة قصره لكن لي لم تطاوعه يده على الرسم، كان النور ينقصه لعينه والسعادة لقلبه عندها إستدعاه الإمبراطور وقال له: ستعود من جديد الى القصر لتعيش وترسم حتى تكون سعيداً، سأدعك مع لوحتك لدقائق قليلة في كل يوم ولكن اذا حاولت القيام بأي شيء قد يغيظني فستعاقب بلا رحمة او شفقة.
نعم مستمعينا الأفاضل تابع لي عمله ومع مرور الأيام كان جرح روحه يتسع أكثر وهو يتأمل الحقل الطليق في موطنه الأخضر وظل يعاني من الحزن المزعج في القصر الإمبراطوري، لم يعد لي يقوى على المقاومة اكثر ففي يوم من الأيام كان وحيداً في الصالة الواسعة أمام لوحته يحدّق فيها وينظر الى ضيعته الخضراء والى الحقل الشاسع الممتد عبر الآفاق الى مالا نهاية، كان يتملاه من أجل أن يشم هواءه المار بين أشجار الصفصاف وكي يعانق الأشجار ويغني مع الريح ويسمع ترانيم قصب الخيزران وفي لحظة قدر أن يهرب من هذا العالم الأسود المثقل بالأغلال قال لنفسه: نعم هناك سأذهب هناك فالحقل واسع وقريب مني فلأركض فيه مفتوح الذراعين كأنهما جناحا طير.
إقترب لي من اللوحة ثم قفز داخلها حيث رأى نفسه ينهب الأرض بخطواته السريعة الواسعة كأنه يحلق بين المروج دون أن يحتاج الى البحث عن الطرقات وأخذ يركض ويركض دون توقف ويبتعد ويصغر رويداً رويداً حتى إختفى عند خط الأفق الأزرق وعندما عاد الحرّاس ليعيدوا لي الى مرسمه لم يجدوه. إستشاط الإمبراطور غضباً فقد كان من المستحيل أن يكون لي قد خرج من هناك من غير أن يراه أحد لكن احد الموظفين من الحكماء وجد التفسير لتلك الأحجية لقد هرب لي في داخل اللوحة وبدأ يركض عبر المنظر الذي رسمه هو نفسه وبالفعل فقد شوهدت آثار خطواته على العشب الندي للمروج.
مستمعينا الكرام حتى الملتقى عند حكايا وخفايا اخرى نستودعكم الله وتقبلوا تحيات قسم الثقافة والأدب والفن من اذاعة طهران صوت الجمهورية الاسلامية في ايران، دمتم سالمين وفي امان الله، الى اللقاء.