يا قطب دائرة القلوب، وجالياً
ظلم الكروب، ومخمداً إبراقها
قد كنت غيث المجدبين، وأمن
خوف المذنبين، ومانعاً إطراقها
ما أنت إلّا طود عزّ ضمّه
قبرٌ، ولو ولج البلاد أضاقها
من للعلوم.. وللحلوم.. وللإبا
من ذا يكون إلى العلى سبّاقها
من للمسائل والوسائل والحبا
من للغوائل راتقٌ أفتاقها
من ذا يمير نزيلها من ذا يجير
دخيلها... من ذا يقود عتاقها
من ذا يحلّ المشكلات ومن
لدفع المعضلات ومن يقي إرهاقها
من ذا ينيل المكرمات ومن لكشف
المبهمات.. ومن يفك غلاقها؟!
«كنت ربيع الأيتام، وعصمة الأنام، وعزّ الإسلام، ومعدن الأحكام، وحليف الإنعام. سالكاً طرائق جدّك وأبيك، مشبهاً في الوصية لأخيك. وفي الذّمم، رضيَّ الشّيم، ظاهر الكرم، متهجّداً في الظّلم، قويم الطّرائق، كريم الخلائق، عظيم السّوابق، شريف النّسب، منيف الحسب، رفيع الرّتب، كثير المناقب، محمود الضّرائب، جزيل المواهب، حليمٌ رشيدٌ منيب، جوادٌ عليمٌ شديد، إمام شهيد، أوّاه منيب، حبيبٌ مهيب.
كنت للرّسول صلّى الله عليه وآله ولدا، وللقرآن سندا، وللإمّة عضدا، وفي الطّاعة مجتهدا، حافظاً للعهد والميثاق، ناكباً عن سبل الفسّاق، باذلاً للمجهود، طويل الرّكوع والسّجود، زاهداً في الدّنيا زهد الرّاحل عنها، ناظراً إليها بعين المستوحشين منها، آمالك عنها مكفوفة، وهمّتك عن زينتها مصروفة، وألحاظك عن بهجتها مطروفة، ورغبتك في الآخرة معروفة».
إخوتنا وأحبّتنا المؤمنين الموالين.. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
يوم ماتت الأخلاق الإسلامية أو كادت أن تموت، أخذ الإمام الحسين -عليه السلام- يحييها بسيرته الطاهرة التي عاشها الناس معه، واستنشق عبيره
القصيُّ والقريب.. عرفوه زاهداً وكان المجتمع قد أذلّه الطّمع، وأرهقه
الجشع، وعرفوه رحيماً عطوفاً حريصاً على سعادة الناس ونجاتهم،
يوم كان الناس قد تملّكتهم القساوة والغلظة والفضاضة. وعرفوا الإمام الحسين -صلوات الله عليه- ذلك الرجل الغيور على حرمات الدين، وعلى حرمات المسلمين، يوم ضمرت الغيرة في الضمائر أو جفّت، وشاع الفساد حتّى أصبح مألوفاً في الأمّة. هذا والناس يغضّون الأبصار والضمائر عنها، وعرفوا الحسين أبياً للضَّيم، أنفاً أمام الطُّغاة الظالمين، عزيز النفس رفيع الكرامة، هذا.. يوم خنع الملأ أمام سلطان الفاسق يزيد يتحاشون طائلته، ويطمعون في فضلات مائدته! وهنا كان الحسين صلوات الله عليه هو الذي أحيا غيرة الجهاد، وحمل السيف مدافعاً عن حرمات الإسلام وكرامة المسلمين، وحقوق المظلومين والمحرومين، وهو - سلامُ الله عليه- قد أحيا روح التضحية والشهادة من أجل إنقاذ الدين، وإعادة الأخلاق إلى حياة المسلمين.
إخوتنا وأعزتنا الأكارم.. لقد تسلّط النفاق، وبانت من النظام الأمويّ الحاكم نوايا سوداء كان استبطنها، حتّى أعلنها حرباً على الإسلام وإذلالاً وانتقاماً من المسلمين. وهكذا اقتضى الأمر مواقف لاينهض بها إلّا إمامٌ وصيّ يعرف حالة الأمة ويعلم ما يصلحها ويقدر على إنقاذ دينها.. وهو يومها كان أبا عبد الله الحسين -عليه السلام- فنهض يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعظ الناس ويذكرهم، ويرشدهم ويحذّرهم، ويدعوهم إلى معرفة الحقّ وتمييزه عن الباطل، ومناصرة العدل وردع الظّلم..
وتلك – أيها الإخوة- هي أسباب عودة الحياة إلى الأمة، ولكنّ الحال كان يستدعي أن يكون هنالك موقفٌ صادع، فيه نهضةٌ صارخة، وتجري عليه دماءٌ زاكية، وتقتل فيه مهجٌ شريفة.. وذلك لم يستطعه يومها إلّا الحسين، سيد شباب أهل الجنّة، وسيد الشهداء من الأولين والآخرين.
فقام سلام الله عليه لله تعالي، غيرةً على الإسلام وعلى نواميس المسلمين، وإحياءً للقيم الأخلاقية، مبتدئاً بالوعظ والنّصح، حريصاً على نجاة المحاربين له والمتقدّمين لقتاله وقتله! ولم يبدأ بقتال حتّى ابتدؤوه، فكان منه جهادٌ ودفاع، وعزّةٌ تنتهي إلى شهادةٍ توقظ الأجيال، وتكشف عن فتوحاتٍ تاريخية على مدى العصور.. حتّى يبقى الإسلام ويحفظ من أيدي أعدائه، بل ويتّسع وينتشر في أرجاء العالم مقروناً بذكر الحسين، وفضل الحسين، والقيم التي أحياها الإمام الحسين.
أجل أيها الإخوة الأحبّة.. لقد أحيى أبو عبد الله الحسين، سبط رسول الله، دين جدّه، وأحيا القرآن والسنّة الطاهرة للنّبي الأكرم -صلّى الله عليه وآله وسلم- كما أحيا الأمل في القلوب أنّ الإسلام سيعود إلى حياة الناس، عقيدةً سليمة، وشرعاً مباركاً، وأخلاقاً فاضلة.. وأنّ الكفر والنفاق والظّلم سيفتضح أمرهم، وسيهان أهلهم. كذلك أحيا الإمام الحسين -سلام الله عليه- ضمائر المسلمين، وأحيا الوعي في عقولهم.. ويكفي مؤشراً على ذلك، بل وفتحاً حسينياً في ذلك، أنّ معاوية بن يزيد نفسه، يخلع نفسه عن الحكم في خطبة صلاة الجمعة، ويفضح أسرته وبني أمية، فيصيح من على منبر الجمعة أمام الملأ في دمشق: "ألا إنّ جدّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة برسول الله وأحقّ في الاسلام، سابق المسلمين، وأوّل المؤمنين.. فركب معاوية منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لاتنكرون، حتّى أتته منيته وصار رهن عمله. ثمّ قلّد أبي (أي يزيد)، وكان غير خليقٍ للخير، فركب هواه واستحسن خطاه.. (ثمّ بكى وقال:) إنّ أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه، وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول، وأباح الحرمة، وحرّق الكعبة. وما أنا المتقلّد أموركم، ولا المتحمّل تبعاتكم، فشأنكم أمركم".
نقل هذه الخطبة وما يقاربها: اليعقوبيُّ في تاريخه، وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)، والدّميريُّ في (حياة الحيوان)، والديار بكريُّ في (تاريخ الخميس)، وابن حجر في(الصواعق المحرقة).. وغيرهم، وقد جاء في بعض كتبهم قول معاوية الصغير أو معاوية الثاني ابن يزيد في خطبته تلك: "لقد كان أبي يزيد – بسوء فعله، وإسرافه على نفسه – غير خليقٍ بالخلافة على أمّة محمد -صلّى الله عليه وآله – فركب هواه، واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم : من جرأته على الله، وبغيه على من استحلّ حرمته من أولاد رسول الله.. فصار حليف حفرته، رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.. فشغلنا الحزن له عن الحزن عليه، فليت شعري هل عوقب بإساءته، وجوزيَ بعمله؟! وذلك ظنّي".
أجل.. وقد أحدثت هذه الخطبة انشقاقاً واضطراباً وتمزّقاً في الأسرة الأموية، وأمّا معاوية بن يزيد فقد اغتالته أسرته انتقاماً لما قاله عن وعيٍ وبصيرة، ولما أشار إليه من شهادة الإمام الحسين -عليه السلام-.
والى هنا، مستمعينا الكرام، نصل الى ختام هذه الحلقة من برنامج «الحسين داعي الله». الى اللقاء.