هل الحزن إلّا على معشر
بنوا طنب المجد في ((نينوى))!
لقد طاولت في العلوّ الشّداد
غداة ابن فاطم فيها ثوى
دعاه الى القدس ربّ العلى
فخرّ صريعاً كنجم هوى
تجلّى له الحقّ سبحانه
كما قد تجلّى بوادي طوى
وأين ابن طه وموسى الكليم
فما صعق وملبّ سوا
برغم المعالي قضى ضامياً
ومن منحر به الحسام ارتوى
فمن مبلغنّ بني هاشم
برزء لوى عضبهم فالتوى
لقد ألبس الرّسل ثوب الحداد
وأبكى ملائكها في الهوا
" اللهم صلي على الحسين بن عليّ، عبدك وابن أخي رسولك، الذي انتجبته بعلمك، وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدّليل على من بعثته برسالاتك، وديان الدين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك، والمهيمن على ذلك كلّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته" .
السلام عليكم، إخوتنا الأعزّة المؤمنين، ورحمة الله وبركاته. إنّ من أهمّ دعائم الدين، إمامة الناس وإرشادهم، وهي من الدرجات العليا للأنبياء، ومن بعدهم للخلفاء الأوصياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن. روى الشيخ الكلينيّ أعلى الله مقامه في (الكافي) الشريف، أنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا _ صلوات الله عليه _ وبخ جماعة خاضوا برأيهم في الإمامة من غير علم، فقال: "هل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم؟! إنّ الإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكانا، وأمنع جانباً، وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بأرائهم، أو يقيمو إماماً باختيارهم". ثمّ أضاف الإمام الرضا _ عليه السَّلام _ يقول: "إنّ الإمامة خصّ الله عزَّ وجلَّ، بها إبراهيم الخليل بعد النّبوة والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها، وأشاد بها ذكره،فقال: (إنّي جاعلك للناس إماماً)" . فقال الخليل _ عليه السَّلام _ سروراً بها: "ومن ذرّيتي؟" قال الله تبارك وتعالي: " قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (سورة البقرة: ۱۲٤)فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصّفوة، ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذرّيته أهل الصفوة والطهارة، فقال: "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ{۷۲} وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ{۷۳}" (سورة الأنبياء) فلم تزل في ذريته، يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا، حتى ورثها الله تعالى النبيّ _ صلى الله عليه وآله _ فقال جلّ وتعالي: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَ_ذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" (سورة آل عمران٦۸) فكانت له خاصّة، فقلّدها _ صلى الله عليه وآله _ علياً _ عليه السَّلام _ بأمر الله تعالى. على رسم ما فرض، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان، بقوله تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ" (سورة الروم: ٥٦)، فهي في ولد علي _عليه السَّلام_ خاصّة إلى يوم القيامة ؛ إذ لا نبيّ بعد محمد _صلى الله عليه وآله_. إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء. إنّ الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول _ صلى الله عليه وآله _ ومقام أمير المؤمنين _عليه السَّلام_ وميراث الحسن والحسين _عليهما السَّلام_.
هكذا –أيها الإخوة الأعزّة الأكارم– كان أهل البيت _عليهم السَّلام_ يوضّحون هذا الأمر الخطير للناس، لئلّا يختلّ نظم أمور المسلمين، فتؤول الحكومة إلى غير أهلها، وإلى من لم يزالوا على جاهليتهم، فيسوقون الناس إلى مهاوي الضّلال والهلاك، فيتحكم فيهم من إذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنّسل، والله لا يحبّ الفساد. وآلت أمور المسلمين إلى الحضيض يوم بويع ليزيد بالخلافة وإمرة المؤمنين وهو مخمور، حتّى كتب سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ، في (تذكرة خواصّ الأمّة) أنّ من شعر يزيد قوله:
معشر النّدمان قوموا
واسمعوا صوت الأغاني
واشربوا كأس مرام
واتركوا ذكر المثاني
شغلتني نغمة العيدان
عن صوت الأذان
فيما كتب المسعوديّ في (مروج الذهب) أن يزيد، بعد قتله للإمام الحسين _ عليه السَّلام _ جلس للشراب وعن يمينه قائده عبيدالله بن زياد، فقال:
إسقني شربة تروّي مشاشي
ثمّ مِلْ فاسق مثلها ابن زياد
صاحب السرّ والأمانة عندي
ولتسديد مغنمي وجهادي!
ثمّ أمر المغنّين فغنّوا له تشفياً وسروراً بانتقامه من النبيّ في أولاده، وهو القائل بملء فمه لمّا أدخلت عليه سبايا الحسين ورؤوس الشهداء مرفوعة على أطراف الرماح:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت
تلك الرؤوس على شفا جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لا تصح
فلقد قضيت من الرسول ديوني!
حتّى إذا أراد الآلوسي الشافعيّ، في تفسيره (روح المعاني) أن يبين بعض معاني قوله تعالى: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ" (سورة محمد (ص):۲۲)، ذكر هذين البيتين، ثمّ علّق قائلاً: أراد بقوله: (فلقد قضيت من الرسول ديوني) أنّه قتل بما قتله رسول الله يوم بدر، كجدّه عتبه، وخاله، وغيرهما، وهذا كفر صريح! نعم... فماذا ينتظر الإمام الحسين _ عليه السَّلام _ بعد كلّ ما كان وقد قلبت المفاهيم، وشوّهت معالم الدين، وهتكت الحرمات في العقيدة والأخلاق والحكم؟! لقد كان لا بدّ من بيان الحقائق، وإقامتها حجّة على الناس، فلا يبقى عذر لمعتذر، ولا مسوّغ لمتجاهل أو مغالط. ومن تلك الحقائق، من هو الإمام الحقّ؟ فكتب _ عليه السَّلام _ كتاباً جوابياً إلى أهل مكة: جاء فيه: "فلعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب (أي القرآن)، والآخذ بالقسط (أي العدل)، والداين بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله". هذا ما رواه الطبريّ في (تاريخه)، وابن الأثير في (كامله)، وابن شهر آشوب في (مناقب آل أبي طالب).. فيما روى الخوارزميّ الحنفيّ في (مقتل الحسين _ عليه السَّلام) أنّ في رسالة الإمام أبي عبدالله الحسين إلى أهل الكوفة هذه العبارات الشريفة: "ما الإمام العامل بالكتاب القائم بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهتدي سبيلاً". جمعنا الله وإياكم على الهدى، وألزمنا وإياكم كلمة التقوى، إنّه لطيف لما يشاء، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.