كيف يُهدد سوء التدبير الداخلي والهيمنة الأجنبية الأمن الغذائي العراقي؟
تعد الزراعة من أهم القطاعات الاقتصادية، والأمن القومي لأي بلد، وتسعى الدول إلى الاعتماد على نفسها في إنتاج وتوريد المنتجات.
يتمتع العراق بإمكانيات زراعية واعدة، إذ تبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة 9.5 مليون هكتار، أي ما يُقارب 22% من إجمالي مساحة البلاد. إلا أن تطوير الزراعة والصناعات المرتبطة بها يمثل تحديا كبيرا في الفترة الحالية والعقدين المُقبلين للعراق، لا سيما وأن النمو السكاني السنوي الذي يتراوح بين 2.5% و3% سيُضاعف احتياجات البلاد الغذائية في السنوات القادمة.
مع ذلك، لا تُمثل حصة هذا القطاع من الناتج المحلي الإجمالي العراقي سوى 4%، وفي أفضل الأحوال، لا يُستغل سوى 5 ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، ولذلك أصبح سوق الزراعة والصناعات الغذائية العراقية معتمدًا كليا على الواردات.
سؤال مهم نريد الإجابة عليه:
لماذا يواجه هذا القطاع الحيوي مشاكل عديدة كهذه في توفير حياة الشعب العراقي؟ هل أدى سوء التدبير من قبل المسؤولين المحليين إلى هذا الوضع؟ ما دور تركيا في هذه القضية؟ ما دور الاحتلال، العقوبات والهيمنة الأمريكية في نشوء هذه المشكلة؟.
من اللافت للنظر أن مراجعة الإحصاءات تشير إلى هجرة كبيرة للمزارعين إلى المدن وهجران هذا القطاع المهم نتيجة لغياب الكفاءة الاقتصادية المناسبة. وهو اتجاهٌ قد يُواجه العراق، في حال استمراره، بأزمةٍ حادة في مجال الأمن الغذائي.
دعونا نعد قليلا إلى الوراء:
كانت الزراعة قبل اكتشاف النفط، أحد الركائز الأساسية للاقتصاد العراقي حتى عام ١٩٢٧ للميلاد، ومصدر الدخل الرئيسي للبلاد. ونظرا لتاريخه العريق في حضارة بين النهرين، لقد تم اعتبار العراق منذ فترة طويلة واحدا من المراكز الزراعية الهامة في المنطقة.
إن وجود نهرين كبيرين، "دجلة" و"الفرات"، وتربة سهلية خصبة، وموقع جغرافي مميز، جعل العراق عرضة لزراعة واسعة ومتنوعة. لكن في العقود الأخيرة، تراجعت هذه القدرة الهائلة بسبب عوامل مختلفة، منها الحروب المتتالية، السياسات غير المستقرة، ونقص التكنولوجيا.
ولكن ما هي التحديات في مجال الزراعة بالعراق؟
الاقتصاد النفطي:
يعتمد اقتصاد العراق بنسبة 90% على النفط. وقد دفع هذا الاعتماد على النفط البلاد إلى النظر في تلبية احتياجاتها من خلال الاستيراد في القطاع الزراعي بدلاً من الاكتفاء الذاتي.
على سبيل المثال، في عام 2023، غطّى العراق حوالي 90% من احتياجاته من الأرز عن طريق الاستيراد. واستنادا إلى البيانات المتاحة، بلغت واردات البلاد من الأرز حوالي مليوني طن في عام ٢٠٢٤ للميلاد، مما يضعه ضمن أكبر ١٠ مستوردي الأرز في العالم.
بينما يُقدر الإنتاج المحلي العراقي بحوالي 12 ألف طن فقط. كما أنه يستورد العراق أيضًا 1.35 مليون طن من السكر الخام سنويًا، أي ما يعادل 635 مليون دولار.
مشاكل المياه الناجمة عن السدود التركية
تُعدّ أزمة المياه من أهم التحديات الحالية التي تواجه الزراعة في العراق. فقد أدى انخفاض هطول الأمطار، ارتفاع درجات حرارة الهواء، وانخفاض معدلات تدفق نهري دجلة والفرات، اللذين ينبعان من دول مجاورة، إلى ضغط كبير على موارد المياه في البلاد. فقد انخفض متوسط منسوب أنهار البلاد بنسبة 40% خلال العقدين الماضيين.
تشير الدراسات إلى أن مشروع "Gap"، الذي يُنفذ بمشاركة الكيان الصهيوني، يُعدّ من أهم أسباب انخفاض منسوب مياه أنهار العراق؛ إذ إن أكثر من 90% من مياه الفرات وأكثر من 56% من مياه دجلة تأتي من الأراضي التركية.
على سبيل المثال، مع تنفيذ مشروع سد إليسو لمشروع "Gap" عام 2021، لقد انخفض 47% من المياه الداخلة إلى العراق، وأصبحا حوالي 700 ألف هكتار من الأراضي الزراعية في البلاد الواقعة على ضفاف نهر دجلة جافة أو شديدة الجفاف.
إضافةً إلى ذلك، سيؤدي التنفيذ الكامل لهذا المشروع إلى فقدان نهر الفرات 70% من مياهه. ونتيجة لذلك، تسببت هذه المشاكل، في حالات جفاف خطيرة في العراق وستستمر في المستقبل.
العقوبات والتدخل الأجنبي
العقوبات الاقتصادية بعد عام 1990 وتقييد الوصول إلى المدخلات الزراعية:
إن العقوبات لم تكن عديمة الفعالية؛ فبعد غزو العراق للكويت عام 1990، فُرضت عقوبات أممية موسعة على العراق بدعم من الولايات المتحدة. وحدّت هذه العقوبات من وصول البلاد إلى التقنيات الزراعية الحديثة، الأسمدة الكيماوية، المبيدات الحشرية، البذور المُحسنة، والآلات الزراعية.
إضافةً إلى ذلك، أدى انخفاض واردات المدخلات الأساسية إلى انخفاض حاد في الإنتاج الزراعي والاعتماد على واردات الغذاء. كما فشل برنامج "النفط مقابل الغذاء" بين عامي 1996 حتى 2003 في تلبية الاحتياجات الأساسية للقطاع الزراعي.
تدمير البنية التحتية في الحروب وغياب إعادة الإعمار بعد الحرب:
كما أدت الهجمات الأميركية عام 1991 وغزو العراق عام 2003 إلى تدمير البنية الأساسية الحيوية مثل أنظمة الري، السدود، القنوات وشبكات نقل المياه.
أدى تضرر أنظمة الري التقليدية، مثل الجداول والقنوات المائية، وانخفاض الوصول إلى المياه، إلى إضعاف الزراعة بشدة في وسط وجنوب العراق.
علاوة على ذلك، وبسبب الحرب والدمار، لم تُحدّث أنظمة الري، ولا يزال العديد من المزارعين يستخدمون طرق الري التقليدية، مما يؤدي إلى هدر هائل للمياه. وحاليًا، لا يستفيد سوى حوالي 25% من الزراعة العراقية من التقنيات الحديثة.
أدى احتلال العراق وتداعياته، مثل نمو الميليشيات والحرب الأهلية، إلى انعدام الأمن في المناطق الريفية. وأُجبر المزارعون على ترك أراضيهم، وتراجع الاستثمار في الزراعة. كما أدى تركيز الحكومة على إعادة بناء صناعة النفط وإهمال القطاع الزراعي إلى تهميشه.
ووفقًا لمؤشر الزراعة الرقمية للبنك الدولي، حصل العراق على حوالي 50 نقطة من 100، بينما احتلت الأردن ولبنان مراكز أعلى بـ 71 و68 نقطة على التوالي. من ناحية أخرى، أدى نقص الآلات الحديثة، الأسمدة الكيماوية والبذور المُحسّنة إلى انخفاض الإنتاجية في القطاع الزراعي.
ويأتي نقص الآلات في العراق على الرغم من امتلاكه أحد أكبر احتياطيات النقد الأجنبي بين الدول العربية. وأن السبب الرئيسي لهذه المشكلة يعود إلى عدم وجود سلطة تقديرية كافية في كيفية استخدام موارد النقد الأجنبي هذه، لأن هذه الموارد تخضع لسيطرة الولايات المتحدة، ولم يتمكن العراق عمليًا من توفير المعدات والآلات التي يحتاجها بشكل مستقل.
جهود أمريكا لتدمير الزراعة والأمن الغذائي في العراق:
بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية من خلال الحرب، استخدمت أمريكا أيضًا أساليب أخرى، وخاصة أسلوب توزيع البذور الملوثة، لتدمير الزراعة والأمن الغذائي في العراق.
على سبيل المثال، في عام ٢٠٠٣، تسببت شركة كارجيل (Cargill) ، من خلال توزيع البذور الملوثة، في انخفاض إنتاج القمح الوطني من ١.٦ طن للهكتار إلى ٠.٦ طن للهكتار في تلك السنوات، على الرغم من مضاعفة المساحة المزروعة. كما انخفض إنتاج القمح الوطني العراقي من ٢.٦ مليون طن في عام ٢٠٠٢ إلى ٢.٢ مليون طن في عام ٢٠٠٦.
السياسات النيوليبرالية وتغيير النمط الاقتصادي بعد عام ٢٠٠٣ من قبل أمريكا
- بعد سقوط صدام حسين، طبقت الحكومة المؤقتة، سياسات اقتصادية قائمة على تحرير السوق وتقليص الدعم للإنتاج المحلي تحت إشراف أمريكا. وشملت هذه السياسات إلغاء الدعم للمزارعين، وفتح الباب أمام استيراد المنتجات الزراعية الرخيصة كالقمح والأرز، مقابل الحصول على عائدات تصدير النفط.
وصعّب دخول المنتجات الأجنبية الرخيصة على المزارعين المحليين المنافسة، مما أجبر الكثيرين منهم على التخلي عن أنشطتهم الزراعية.
ونتيجة للتحديات المذكورة، يواجه العراق مشاكل خطيرة في مجال الزراعة، وسيؤدي النمو السكاني بنسبة تتراوح بين 2.5 و3% إلى تضاعف الحاجة إلى الغذاء في البلاد خلال السنوات القادمة.
ولكي لا يواجه العراق أزمة غذائية خلال السنوات القادمة، لا بد من اتخاذ تدابير مثل تمهيد الطريق لدخول تقنيات زراعية جديدة إلى البلاد، دعم الإنتاج المحلي، المساعدة في توفير المياه اللازمة من خلال الإدارة المثلى والحصول على حقوقها من تركيا، والمساعدة في تحسين البذور والإنتاجية في هذا المجال.
وستساعد هذه الإجراءات الحكومة والشعب العراقيين على تجنب أزمة غذائية خلال السنوات المقبلة.