موضوع البرنامج:
شرح فقرة: "يا منور القلوب يا أنيس القلوب..."
نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها دعاء الجوشن الكبير، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، وانتهينا من ذلك الى مقطع ورد فيه: (يا منوّر القلوب، يا أنيس القلوب...).
إنّ هذين المظهرين او الإسمين او الصفتين من صفات الله تعالى، تشيران الى دلالتين متجانستين، يجدر بنا إلقاء الاضاءة عليهما، حتى نتبين النكات الكامنة وراء ذلك، فماذا نستلهم منهما؟
تقول العبارة الاولى: (يا منوّر القلوب)، ترى: ماذا تعني هذه العبارة، وما تحمله من الرموز؟
أنّ (الرمز) لواضح ونعني به (التنوير) للقلوب بواسطة الله تعالى، وقد سبق أن قلنا - في لقاء ماض - إنّ القلب هو مصدر السلوك عند الانسان، فبقدر نقائه او عدمه يتحدّد السلوك وتترتب عليه الآثار في ميدان الجزاء على ذلك.
إنّ (النور) رمز واضح لمبادئ الله تعالى، إنه رمز لرحمة الله تعالى وعظمته، إنّ الله تعالى - كما يقول النصّ النص القرآني الكريم -نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بمعنى أنه الفاعلية المتفردة في الكون من حيث (الفيض) اي: وجود الكون نفسه، ومن حيث الرحمة التي تنسحب على الكون في مختلف قواه وعناصره.
والسؤال الآن: ما هي صلة (النور) أو (التنوير) من الله تعالى للقلوب؟
من الواضح، أنّ (القلب) اذا خلا من التعامل مع الله تعالى: حينئذ يصبح خاوياً، أسود، لا غناء فيه.
واذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ القرآن الكريم عندما صرّح بأنّ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ: حينئذ ندرك بجلاء أنّ الكفر والمعصية ومطلق الشرّ هي: (ظلمات) وأنّ العكس هو الصحيح اي: أنّ الايمان والطاعة ومطلق الخير هي (النور) حيث يخرج الله تعالى المؤمنين من (ظلمات) الكفر والانحراف والشرّ الى (نور) الايمان والطاعة والخير... وهذا هو ما يستلهمه الملاحظ من عبارة: (يا منوّر القلوب) اي: أنّ الله تعالى هو (المنّور) لقلوب المؤمنين، يخرجهم من الظلمات ويظهرهم الى النور.
هذا فيما يتصل بعبارة: (يا منوّر القلوب) ولكن ماذا بالنسبة الى عبارة: (يا أنيس القلوب)؟
من الواضح ايضاً: أنّ الشخصية التي تتعامل مع الله تعالى سوف تمتلئ شموخاً، وانتساباً الى مصدر الوجود.
إنّ النصوص الشرعية طالما تشير الى أنّ المؤمن عندما يتعامل مع الله تعالى يحسّ بالوحشة من الآخرين، اي (يأنس) بالله تعالى وحده ولا يعنيه الآخرون، وسبب ذلك من الوضوح بمكان، كيف ذلك؟
أنّ الله تعالى هو الذي ركّب في النفس البشرية: حاجتها الى الاشباع، اي خلق لها حاجات ورسم لها طرائق لتحقيق الحاجات، اي لإشباعها، ومع معرفتنا لهذا الجانب، حينئذ فإنّ الله تعالى وهو المودع هذه الحاجات وطرائق إشباعها يصبح هو المصدر لتحقيق الاشباع المذكور في حالة ما اذا التزم العبد بمبادئ الله تعالى بصفة أنّ الإلتزام هو: تحقيق لكل الحاجات التي يتحسّسها الانسان، وذلك لسبب واضح هو أنّ الله تعالى خالق الحاجة وإشباعها وحينئذ فإنّ الالتزام بمبادئه يجسّد الإشباع التامّ للحاجات المشار اليها.
من هنا ندرك النكات الكامنة وراء العبارة القائلة: (يا أنيس النفوس)، حيث إنّ (الوحشة) التي تطال الشخصية لا تجد مفرّاً إلاّ من خلال (الأنس) بمصدر يملأ القلب بنوره تعالى تبعاً لقوله تعالى: «أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».
إنّ الاطمئنان يحقّق (الأنس)، والأنس مصدر او أداة لطرد (الوحشة) من القلب، في خضمّ ما يكابده الانسان من الشدائد المتنوعة.
اذن عبارة: (يا منّور القلوب) من جانب وعبارة: (يا أنيس القلوب) من جانب آخر، تفسّر ان لنا معنى أنه تعالى يحقّق لعبده التوازن النفسيّ والروحيّ ومن ثمّ فإنّ المطلوب هو الالتزام بمبادئ الله تعالى والتصاعد بها الى النحو المطلوب.