ويشير التراث الثقافي غير المادي إلى مجموعة من التقاليد والعادات والمعرفة والمهارات وأساليب الحياة التي تنتقل من جيل إلى آخر ولها هوية ثقافية محددة ومعنى لمجتمعات مختلفة. وعلى عكس التراث الثقافي المادي، الذي يشمل عادة القطع الأثرية المادية والمعالم التاريخية، فإن هذا التراث موجود في شكل غير ملموس في شكل تجارب وسلوكيات وتفاعلات اجتماعية في المجتمعات. إن التراث الثقافي غير المادي يتغير باستمرار ويستجيب للاحتياجات والظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات. وبعبارة أخرى، فإن هذا النوع من التراث يتم إعادة خلقه وتكييفه باستمرار، لأنه لا يمكن حصره في أشياء ثابتة.
تعرف اليونسكو التراث الثقافي غير المادي بأنه جزء من الثقافة الحية للشعب، والذي يشمل الموسيقى والرقص واللغات الأصلية والطقوس والمعرفة التقليدية حول الطبيعة.
ويلعب هذا التراث دوراً هاماً في الحفاظ على التماسك الاجتماعي وبناء الهوية وتنمية الإبداع، إلا أنه في عصر العولمة يواجه تهديدات قد تؤدي إلى نسيانه أو تغييره. ومن ثم فإن حمايتها ونقلها من خلال التعليم والتوعية والمشاركة المجتمعية أمر ضروري. يساهم الحفاظ على التراث الثقافي غير المادي في التنوع الثقافي والتنمية المستدامة وتعزيز العلاقات بين الثقافات.
يُعد الإفطار، أكثر من مجرد وجبة طعام، من أهم الطقوس الدينية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، والذي يلعب، كجزء من التراث الثقافي غير المادي، دوراً هاماً في الحفاظ على الهوية الثقافية، وتعزيز التضامن الاجتماعي، ونقل القيم الروحية. هذه الطقوس التي تقام عند غروب الشمس خلال شهر رمضان، لا تمثل نهاية الصيام فحسب، بل تشكل أيضًا فرصة للتجمعات العائلية، وتعزيز الروابط الاجتماعية، والتعاطف بين الأفراد. تم تسجيل الإفطار كتراث ثقافي غير مادي عالمي مشترك من قبل إيران وتركيا وجمهورية أذربيجان وأوزبكستان في عام 2023.
ديانة إسلامية آسيوية
في مختلف البلدان الإسلامية، هناك تقاليد وعادات خاصة لإفطار الصيام، والتي انتقلت من جيل إلى جيل، وتم إعادة صياغتها وتكييفها مع مرور الوقت مع الحفاظ على أصالتها. يعتبر الإفطار من أهم طقوس شهر رمضان، ويتم الاحتفال به في الدول الإسلامية بعادات وتقاليد محددة متجذرة في تقاليد وثقافة وأسلوب حياة كل أمة.
إيران
في إيران، الإفطار ليس مجرد وجبة طعام، بل هو أيضًا فرصة للتجمعات العائلية وبناء العلاقة الحميمة بين أفراد الأسرة والأصدقاء. تتكون مائدة الإفطار عادة من الخبز والجبن والخضروات والتمر والزلابية والبامية والشوربة. وتتمتع المشروبات التقليدية مثل الشاي وشراب الأعشاب أيضًا بمكانة خاصة على هذه المائدة. وفي بعض المناطق، تنتشر طقوس مثل "نذور الإفطار"، حيث تقوم الأسر أو المساجد بتوزيع الأطعمة النذرية بين الصائمين.
وفي المدن الدينية مثل مشهد وقم، تقام مراسيم الإفطار في الأماكن المقدسة مثل مرقد الإمام الرضا(ع) ومرقد السيدة معصومة(س) على نطاق واسع بمشاركة الجمهور والمحسنين. كما تقوم بعض الجمعيات الخيرية والمؤسسات العامة بتوزيع وجبات إفطار على المحتاجين، تجسيداً لروح التكافل الاجتماعي خلال هذا الشهر.
تركيا
في تركيا، يعتبر الإفطار من أهم لحظات الصيام، وفي العديد من المدن، وخاصة في إسطنبول، تقام مآدب إفطار كبيرة في الهواء الطلق بجوار المساجد التاريخية. يبدأ الإفطار في هذا البلد عادة بالتمر والزيتون وخبز "البيدا" والجبن والحساء، يليه مجموعة متنوعة من الأطباق مثل الكباب والدولما واللحم بعجين (بيتزا تركية) والبقلاوة التركية.
ومن العادات المثيرة للاهتمام في تركيا "الإفطار العام"، حيث يتم وضع طاولات طويلة في شوارع وساحات المدن ويتناول الناس، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية، إفطارهم معًا. علاوة على ذلك، في ليالي شهر رمضان المبارك، لا يزال تقليد "الطبول" حياً في بعض المناطق، حيث يقوم الموسيقيون المحليون بإيقاظ الناس عند الفجر عن طريق قرع الطبول.
جمهورية أذربيجان
في جمهورية أذربيجان، يعتبر الإفطار، بالإضافة إلى بعده الديني، فرصة للتجمعات العائلية والودية. كما هو الحال في إيران، يبدأ أهل هذا البلد إفطارهم بالتمر والشاي. ومن بين أطباق الإفطار الشعبية الأطباق التقليدية مثل البيلاف، و"الدوشبارا" (نوع من حساء اللحم)، و"البوغلاما" (طبق من اللحوم والخضروات)، والخبز المحلي مثل "تشورك".
ومن السمات الخاصة لشهر رمضان في أذربيجان أهمية الضيافة. تعتبر العديد من العائلات الإفطار فرصة لدعوة الأصدقاء والأقارب، ومحاولة تزيين موائد الإفطار بالأطعمة الملونة والمتنوعة.
أوزبكستان
في أوزبكستان، يرافق طقوس الإفطار الأطعمة التقليدية والاحتفالات الجماعية. يفطر الأوزبك عادة بالتمر والشاي الأخضر، يليه الأطباق المحلية مثل "البيلاف الأوزبكي"، والسمبوسة، وخبز اللافاش، و"الشوربة"، والحلاوة. في هذا البلد، لا يعد الإفطار مجرد فعل ديني فحسب، بل هو أيضًا مناسبة اجتماعية حيث يجتمع أفراد الأسرة والأصدقاء وحتى الجيران معًا.
أحد التقاليد الجميلة لشهر رمضان في أوزبكستان هو إقامة إفطارات في الشوارع وتوزيع الطعام على المحتاجين. كما تقيم المساجد والمراكز الدينية في مختلف المدن مثل طشقند وسمرقند إفطارات عامة، تجسيداً لروح التضامن ومساعدة الآخرين خلال هذا الشهر الفضيل.
يتمتع الإفطار في إيران وتركيا وجمهورية أذربيجان وأوزبكستان، على الرغم من بعض الاختلافات الثقافية والغذائية، بخصائص مشتركة مثل روح التضامن والضيافة والمشاركة الاجتماعية. وباعتبارها جزءًا من التراث الثقافي غير المادي، فإن هذه الطقوس ليست مجرد تقليد ديني، بل هي أيضًا رمز للتفاعلات الاجتماعية والحفاظ على الهوية الثقافية في هذه البلدان.
كما يعزز الإفطار مفاهيم مثل الضيافة والتسامح ومساعدة المحتاجين. وتقيم العديد من العائلات والمؤسسات وجبات إفطار عامة خلال شهر رمضان، وهو ما يرمز إلى التكافل الاجتماعي وتعزيز القيم الإنسانية. وقد انتشر هذا التقليد في العديد من البلدان، وحتى في المجتمعات غير الإسلامية، كرمز للتفاعل الثقافي واحترام التقاليد الدينية.
الإفطار بتأثير الحياة العصرية
لقد انتشر الإفطار، باعتباره أحد الطقوس المهمة في شهر رمضان، خارج حدود المجتمعات الإسلامية، وأصبح رمزاً للتفاعل الثقافي واحترام التقاليد الدينية في العديد من البلدان، حتى في المجتمعات غير المسلمة. في العديد من المدن الكبرى حول العالم، وخاصة في أوروبا وأميركا الشمالية، تُقام حفلات إفطار عامة من قبل المنظمات الإسلامية والمساجد والمؤسسات الخيرية، وحتى الحكومات المحلية. وتهدف هذه الفعاليات في كثير من الأحيان إلى تعزيز التضامن الاجتماعي والتفاهم المتبادل بين الثقافات والأديان المختلفة، وزيادة الفهم العام للتقاليد الإسلامية.
وفي بلدان مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة، يتم الاحتفال بتقليد الإفطار في الحدائق والمراكز المجتمعية وحتى في الجامعات كفرصة للحوار والتفاعل بين المجتمعات المختلفة. يتضمن هذا الحفل عادة دعوة غير المسلمين لتجربة الإفطار، والتعرف على فلسفة الصيام، والاستماع إلى القصص والقيم المرتبطة بهذه الطقوس. وتلعب العديد من هذه الأحداث دوراً هاماً في تعزيز التعاطف والتعايش، وخاصة خلال الفترات التي تواجه فيها المجتمعات المسلمة تحديات مثل التمييز وسوء الفهم الثقافي.
ونظراً للأهمية الاجتماعية والثقافية لوجبة الإفطار، فإن هذه الشعيرة، باعتبارها جزءاً من التراث الثقافي غير المادي، تتطلب الاهتمام والحماية للحفاظ على أصالتها في ظل التطورات العالمية، والاستمرار في العمل كجسر بين الأجيال والمجتمعات المختلفة.
يعتبر الإفطار من الطقوس المهمة خلال شهر رمضان، ولا يقتصر الأمر على الجانب الديني فقط، بل له مكانة اجتماعية وثقافية خاصة في المجتمعات الإسلامية وحتى خارجها. وقد أقيمت هذه الطقوس منذ قرون بين العائلات والأصدقاء والجيران كوقت للتجمع والتعاطف وتعزيز الروابط الاجتماعية. ولكن في عصر العولمة والتغير الثقافي السريع، يواجه تقليد الإفطار أيضًا تحديات قد تؤثر على أصالته ودوره الاجتماعي.
كجزء من التراث الثقافي غير المادي، تم الحفاظ على وجبة الإفطار من خلال النقل الشفهي والعملي من جيل إلى جيل. في العديد من العائلات، تعتبر طريقة إعداد الأطعمة التقليدية، وآداب الاستقبال، وحتى الصلاة قبل الإفطار، جزءًا من الهوية الثقافية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء. ولكن في المجتمعات حيث أدت أنماط الحياة الحديثة إلى الحد من التفاعلات الأسرية، فإن عملية انتقال العدوى هذه معرضة لخطر التقويض. لذلك، وللحفاظ على هذا التراث، لا بد للأسر والمؤسسات الثقافية من الاهتمام بتعزيز القيم المرتبطة بالإفطار والحفاظ عليها.
وفي عالم اليوم، حيث تتفاعل الثقافات مع بعضها البعض أكثر من أي وقت مضى، يمكن أن يكون الإفطار بمثابة أداة للحوار والتفاعل بين المجتمعات المختلفة، كما يمكن للسياحة الثقافية أن تلعب دوراً في الحفاظ على طقوس الإفطار وتعزيزها. وفي بعض الدول الإسلامية، مثل إيران وتركيا وماليزيا والمغرب، أصبح الإفطار تجربة ثقافية للسياح. ومن شأن هذه الفرصة أن تساعد في الحفاظ على طقوس الإفطار التقليدية وتعزيزها، وتساعد في عولمة هذا التراث الثقافي مع الحفاظ على أصالته.
وللحفاظ على وجبة الإفطار كجزء من التراث الثقافي غير المادي، لا بد من تصميم برامج تعليمية وإعلامية واجتماعية تهدف إلى الحفاظ على أصالة هذه الشعيرة. وبهذه الطريقة، يمكن للإفطار أن يواصل دوره كجسر بين الأجيال والمجتمعات المختلفة، مع التكيف مع التطورات العالمية دون أن يفقد أصالته وقيمه الأساسية.