المقدمة
مستمعينا الافاضل فى هذه الحلقة نتوقف عند العرض القراني لموقف قوم هود المعاندين والمغرورين مقابل نصائح أخيهم هود وتوجيهاته إليهم _عليه السلام_من الدعوة الى عبادة الله وترك عبادة الاصنام. اذن تعالوا ننصت الى القران الكريم وهو يستعرض ما جرى.
*******
التلاوة
"قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَة وما نَحْنُ بِتارِكي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنينَ ٥۳ إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوء قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ واشْهَدُوا أَنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ ٥٤ مِنْ دُونِهِ فَكيدُوني جَميعاً ثُمَّ لاتُنْظِرُونِ ٥٥ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّة إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراط مُسْتَقيم ٥٦ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ولاتَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْء حَفيظٌ٥۷"
*******
المفردات
قال قوم هود مخاطبين نبيهم "يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ" أي لم تأتِنا بدليل مقنع لنا ثم اضافوا "وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ" وأضافوا إلى هذه الجمل الثّلاث غير المنطقية، أنّك يا هودُ مجنون و"إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوء"فإنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم! فإنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم، وخرافة عبادة الأصنام.فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إلى حماية من الإنسان نفسه، كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإنسان العاقل؟ أضف إلى ذلك، ما دليلهم على جنون هود هل هو إلاّ كونه كسر طوق «السنة المتبعة عندهم» وكان معارضاً للسنن والآداب الخرافية في محيطه على كل حال، فإنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين رداً مقروناً بالمنطق، من منطلق القوّة أيضاً... يقول القرآن في جواب هود لهم "قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ واشْهَدُوا أَنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ" يشير بذلك إلى أنّ الأصنام إذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علناً فعلام تسكت هذه الأصنام؟ وماذا تنتظر ربي؟ ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء، فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء، فإذا كنتم قادرين "فَكيدُوني جَميعاً ثُمَّ لاتُنْظِرُونِ" فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً، ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً، وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات، إلاّ أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات،" إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ" وهذا دليل على أنّني لا أقول إلاّ الحق والصدق، وأن قلبي مرتبط بعالم آخر، فإنّه "ما مِنْ دَابَّة إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها"، فما لم يأذن به الله، لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً. ولكن اعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالاشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهو واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق، بل هو الله الذي لا يفعل إلاّ الحكمة والعدل "إِنَّ رَبِّي عَلى صِراط مُسْتَقيم" قوله تعالى: «و يستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ» هذا وعيد وإخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله ويتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا ويزيدهم قوة إلى قوتهم، ونهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد. و قوله:"ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ" أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم وقد كان هود _عليه السلام_ بين لقومه أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما جاء ذلك فى سورة الأعراف: "وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً"و قوله: "وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً" أي لا تقدرون على إضراره بشيء من الفوت وغيره إن أراد أن يهلككم ولا أن تعذيبكم وإهلاككم يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شيء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب ولا يفوت من قدرته فائت. يقول الباري تعالى عن لسان قوم هود "قالوا ياهود ما جئتنا ببينة" السؤال الذي يطرح نفسه هو هل صحيح ان هوداً عليه السلام لم يأتي بالبينة اي المعجزة لقومه في حين ان الله تعالى ارسل الانبياء بالبينات، نستمع معاً الى الاجابة التي تفضل بها سماحة السيد عبد السلام زين العابدين استاذ العلوم القرانية من مدينة قم المقدسة يجيب عن هذا التساؤل مشكوراً
*******
زين العابدين: بسم الله الرحمن الرحيم قالوا "قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَة وما نَحْنُ بِتارِكي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنينَ"قطعاً هذا ادعاء كاذب لأن لابد لكل نبي ببينة، هنا البينة بمعنى المعجزة، كل نبي يأتي بمعجزة تدل على صدق نبوته وصدق رسالته، طبعاً الاقوام ولاسيما قوم هود كما عرفنا من الحلقة السابقة قوم هود كانوا طغاة يعني بنوا مدن ضخمة وكبيرة وطبعاً "إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{٦} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى{۷}" بحيث ان القرآن يقول في سورة الفجر "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ{٦} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ{۷} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ{۸}" يعني طبعاً هذه المدنية الكبيرة، هذه الحضارة الكبيرة عادة تؤدي الى الطغيان والى عدم الاعتراف بأي بينة وبأي معجزة وذهب بعض المفسرين يعني اختلف العلماء في ماهي معجزة هود عليه السلام؟ يظهر من السياق ان معجزة هود عليه السلام كانت تلك السلطة التي تمنع القوم من ان يمسوه بسوء مع انه تحداهم جميعاً واستفزهم بقوله "إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ واشْهَدُوا أَنِّي بَريءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكيدُوني جَميعاً ثُمَّ لاتُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي ورَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّة إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها" هذا التحدي العظيم يعني هود كان لوحده امام طغاة، امام دولة كبرى "إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ" هذا التحدي الكبير "فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ" يعني لاتتأخروا بي، بقتلي بسجني، بمسي بسوء مع ذلك لم يستطع القوم ان يمسوه بسوء، بعض العلماء في التفاسير قالوا ان معجزة هود هي نفس هذه السلطة التي تمنع هؤلاء الطغاة من ان يمسوه بسوء وقد ذهب الى هذا الرأي العلامة الطباطبائي رضوان الله تعالى عليه في تفسير الميزان اذ يرى ان هوداً عليه السلام مع كل هذا التحدي بقوله "فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ" بقي بينهم في عافية وسلامة، لايمسوه بسوء ولايستطيعون ان ينالوه بشر يقول هذا نفسه آية معجزة وحجة سماوية على انه رسول الله اليهم. طبعاً هذا رأي لطيف استفاده العلامة الطباطبائي من السياق ان عدم استطاعة هؤلاء القوم رغم مايملكون من قوة ومايملكون من سلطة ومايملكون من جبروت، هؤلاء ارم ذات العماد رغم كل ذلك وتحداهم لوحده مع ذلك لم يستطيعوا ان يمسوه بسوء، هناك سلطان من الله عزوجل كان لهود عليه السلام، سلطان تكويني ربما تكون هي هذه المعجزة وربما تكون هناك معجزة له اخرى لم يتحدث عنها القرآن الكريم.
*******
يقول البارى تعالى عن لسان قوم هود "قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَة"هل صحيح ان هودا _عليه السلام_لم يات بالبينة اى المعجزة لقومه فى حين ان الله تعالى ارسل الانبياء بالبينات ؟
قصة نبي الله هود (عليه السلام) ۲
مستمعينا الكرام بلغ بنا الحديث ان قوم هود _عليه السلام_اتهموا نبيهم بانه يبحث عن الاجر المادى لما يقوم به من انذارهم ودعوتهم الى التوحيد وترك عبادة الاصنام الا ان هودا افهمهم أن أجره على الله، إنه لا يريد منهم شيئا غير أن يغسلوا عقولهم في نور الحقيقة. فحدثهم عن نعم الله العديدة عليهم، لكن القوم الذين وجدوا انفسهم اقوى الامم استكبروا وعتوا عن امر ربهم فجادلواهودا الذى كان يحقر الاصنام التى كانوا يعبدونها من دون الله . فقالوا لهود: كيف تتهم آلهتنا التي وجدنا آباءنا يعبدونها؟ قال هود: كان آباؤكم مخطئين. قال قوم هود: هل تقول يا هود إننا بعد أن نموت ونصبح ترابا يتطاير في الهواء، سنعود إلى الحياة؟ قال هود: ستعودون يوم القيامة، ويسأل الله كل واحد فيكم عما فعل. هنا انفجرت الضحكات بعد هذه الجملة الأخيرة. ما أغرب ادعاء هود. هكذا تهامس الكافرون من قومه. إن الإنسان يموت، فإذا مات تحلل جسده، فإذا تحلل جسده تحول إلى تراب، ثم يهب الهواء ويتطاير التراب. كيف يعود هذا كله إلى أصله؟! ثم ما معنى وجود يوم للقيامة؟ لماذا يقوم الأموات من موتهم؟ استقبل هود كل هذه الأسئلة بصبر كريم.. ثم بدأ يحدث قومه عن يوم القيامة.. أفهمهم أن إيمان الناس بالآخرة ضرورة تتصل بعدل الله، مثلما هي ضرورة تتصل بحياة الناس. قال لهم ما يقوله كل نبي عن يوم القيامة. حدثهم هود بكل ذلك فاستمعوا إليه ولكن كذبوه. قالوا له هيهات هيهات.. ثم قال رؤساء قوم هود: أليس غريبا أن يختار الله من بيننا بشرا ويوحي إليه؟ تسائل هو: ما هو الغريب في ذلك؟ إن الله الرحيم بكم قد أرسلني إليكم لأحذركم. إن سفينة نوح، وقصة نوح ليست ببعيدة عنكم، لا تنسوا ما حدث، لقد هلك الذين كفروا بالله، وسيهلك الذين يكفرون بالله دائما، مهما يكونوا أقوياء. قال رؤساء قوم هود: من الذي سيهلكنا يا هود؟ قال هود: الله. قال الكافرون من قوم هود: ستنجينا آلهتنا. وأفهمهم هود أن هذه الآلهة التي يعبدونها لتقربهم من الله، هي نفسها التي تبعدهم عن الله. أفهمهم أن الله هو وحده الذي ينجي الناس، وأن أي قوة أخرى في الأرض لا تستطيع أن تضر أو تنفع. واستمر الصراع بين هود وقومه. وكلما استمر الصراع ومرت الأيام، زاد قوم هود استكبارا وعنادا وطغيانا وتكذيبا لنبيهم. وبدءوا يتهمون "هودا" عليه السلام بأنه سفيه مجنون. قالوا له يوما: لقد فهمنا الآن سر جنونك. إنك تسب آلهتنا وقد غضبت آلهتنا عليك، وبسبب غضبها صرت مجنونا. عندئذ لم يبق لهود إلا التوجه إلى الله وحده فقال هود: "إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ"
*******
من هدى الائمة _عليه السلام_
في تفسير العياشي، عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب _عليه السلام_: في قوله: "إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا، وبالسيىء سيئا، ويعفو عمن يشاء ويغفر، سبحانه وتعالى عمن يشاء.
*******
دروس وعبر
* النقطة المهمة التى تشير اليها عبارة "وما نَحْنُ بِتارِكي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ" هى ان سبب رفض الكفار للايمان بالله لم يكن عدم اتيان النبى هود بالبينة حسب زعمهم بل انهم لم يؤمنوا به بسبب قول هود _عليه السلام_كما تقول الاية "وما نَحْنُ بِتارِكي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ" *لا شكّ أنّ هوداً ـ كأي نبي من الأنبياء ـ أدّى دوره ووظيفته وأظهر المعجزة أو المعجزات لقومه للتدليل على حقانيته، ولكنّهم لغرورهم ـ مثل سائر الأقوام ـ أنكروا معاجزه وعدوّها سحراً وعبارة عن سلسلة من المصادفات والحوادث التي لايمكن أن تكون دليلا على المطلوب *ليس جديداً وصف الكفار الانبياء بانهم مجانين، فالتاريخ السالف والمعاصر مليءٌ بنسبة الجنون إلى الأشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للاستعمار، فعلى الذى يسير فى سيرة الانبياء عليه ان لا يكترث بهذه الامور بل يستعد لمواجهتها. * ان حياة الامم او سقوطها يخضعان للسنن والقوانين الكونية الإلهية ويمكن الاشارة الى ان الشرك وارتكاب الاثام وعداء الانبياء والظلم وغيره تدخل في اسباب انهيار وسقوط المجتمعات والامم و هذا ما يشير اليه قوله تعالى: " فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ويَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غيركم".
*******