البث المباشر

قصة قضاء داوود عليه السلام

الإثنين 18 مارس 2019 - 11:22 بتوقيت طهران

الحلقة 71

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين. أحبة القرآن الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أجمل تحية مفعمة بأريج القرآن الكريم نبعثها الى حضراتكم وانتم برفقة هذا البرنامج الذي تتابعونه من إذاعة طهران. في هذه الحلقة ضمن تجوالنا في ربوع القرآن الكريم نتطرق الى قصة نبي الله داوود (عليه السلام) وبالتحديد تلك التي تتحدث عنها الآيات ۲۱ الى ۲٥ من سورة صاد المباركة ضمن الفقرات التالية.
بدايةُ نقدم لكم تلاوة مرتلةً لهذه الآيات المباركة، ثم نتعرف على معاني المفردات والعبارات القرآنية التي وردت في هذه الحكاية، ثم نستمع معاً الى إجابة ضيف اللقاء بشأن عصمة داوود (عليه السلام) لننتقل بعد ذلك الى محطة الحكاية ونتابع تفاصيلها، ثم نغترف من نبع علوم أهل البيت عليهم السلام في فقرة من هدي أهل البيت (عليهم السلام) وروايةٍ عن الامام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) واخيراً مع باقة من الدروس والنتائج المستقاة من القصة القرآنية هذه فاهلاً بكم الى هذا البرنامج.

المقدمة

أحبة القرآن الكريم تخاطب الآيات التالية رسول الله محمداً (صلى الله عليه وآله) وتحكي حادثةً جرت للنبي داوود (عليه السلام) لتطرح بحثاً بسيطاً وواضحاً عن قضاء داوود، فقد أُثيرت ضجة عظيمة في أوساط المفسرين وذلك بسبب تحريف وسوء تعبير بعض الجهلة ووجود الاسرائيليات لاسيَّما في قصة داوود (عليه السلام)، إذ كانت أمواج هذه الضجة من القوّة بحيث جرفت معها بعض المفسرين، وجعلتهم يحكمون بشئ غير مقبول، ويقولون ما لايليق بهذا النّبي الكبير، والذي ينتهك بصورة واُخرى عصمة الانبياء (عليهم السلام). اذن مستمعينا الكرام نتهّيأ لنستمع الى خير الكلام القرآن المجيد وهو يتطرَّق الى قصة داوود (عليه السلام):

التلاوة

" فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ"

المفردات

في البداية يخاطب القرآن المجيد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسَوَّروا المحراب". (الخصم) جاءت هنا كمصدر، وأكثر الأحيان تُطلق على الطرفين المتنازعين، وتستعملُ هذه الكلمة للمفرد والجمع، وأحياناً تجمع على (خصوم). (تسوَّروا) مشتقة من (سور) وهو الحائط العالي الذي يبنى حول البيت أو المدينة، وتعني هذه الكلمة في الأصل، القفز أو الصعود إلى الأعلى. (محراب) تعني صدر المجلس أو الغرف العليا ولأنَّها أصبحت محلا للعبادة أخذت تدريجيّاً تطلق على محل العبادة. وتصطلحُ اليوم على المكان الذي يقف فيه إمام الجماعة لأداء مراسم صلاة الجماعة، وجاء في كتاب المفردات، نقلاً عن البعض أنّ سبب إطلاق كلمة «المحراب» على محراب المسجد، هو لكونه مكاناً للحرب ضدّ الشيطان وهوى النفس. على أيّة حال، فرُغم أنّ داوود (عليه السلام) كان مُحاطاً بأعداد كبيرةٍ من الجند والحرس، إلاَّ أنَّ طرفي النزاع تمكَّنا من طريق غير مألوف وهو تسوَّر جدران المحراب من الظهور أمام داوود (عليه السلام) فجأةً، "إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ"، فزع داوود عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون إستئذان ومن دون إعلام مسبق، وظنّ داوود (عليه السلام) أنّهم يكنّون له السوء.
"قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ"، عمد الخصمان بسرعةٍ إلى تطييب نفس داوود وإسكان روعه، وقالا له: لاتخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر "فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ". بمعنى احكم الآن بيننا ولاتتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح. مفردةُ "تُشْطِطْ" مشتقة من (شطط) وتعني البعيد جدّاً، ولكون الظلم والطغيان يُبعدان الإنسان كثيراً عن الحقّ، فكلمة (شطط) تعني الإبتعاد عن الحقّ، كما تُطلق على الكلام البعيد عن الحقيقة. 
من المُسلم به أنَّ قلق وروع داوود قلّ بعض الشئ عندما وضّح الأخوان هدف مجيئهما إليه، ولكن بقي هناك سؤال واحد هو الهدف من مجيئهما إلى داوود عن طريق غير مألوف؟
ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داوود، وقال: "إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ"، بمعنى أن هذا أخي، يمتلك ۹۹ نعجة، وأنا لا أملك إلاّ نعجة واحدة، وهو يُصِرُّ علي أن أُعطيَهُ نعجتي ليَضُمّها إلى بقيّة نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ. (النعجةُ) هي الأنثى من الضأن. وقد تُطلق على أنثى البقر الوحشي والخراف الجبلية. (أَكْفِلْنِيهَا) مشتقة من الكفالة وهي هنا كناية عن التخلي (ومعنى الجملة إجعلها لي وفي ملكيَّتي وكفالتي، أي إمنحني إياها). (عزَّني) مشتقة من (العزّة) وتعني التغلّب، وبذا يكون معنى الجملة انَّهُ تغلّب علي.
وهنا التفت داوود (عليه السلام) إلى المدّعي قبل أن يستمع كلام الآخر (كما يوضّحهُ ظاهر الآية) وقال: فكأنَّهُ يقولُ له إنّهُ من البديهي أنّهُ ظلمك بطلبه ضمَّ نعجتك إلى نعاجهِ "قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ"، واكَّد داوود أنَّ هذا الأمر ليس بجديد، إذ إنّ الكثير من الأصدقاء والمخالطين بعضهم لبعض يبغي على صاحبه، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم قلّة. فالظاهرُ أنَّ طرفي الخصام إقتنعا بكلام داود (عليه السلام) وغادرا المكان. ولكن داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما فآداب مجلس القضاء تفرض على داوود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولايتعجل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثم يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا، وظنّ أنّما فتنهُ الباري عزّوجل بهذه الحادثة فتقول الآيةُ: (وظنّ داوود أنّما فتنّاه). وهنا أدركتهُ طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربّه وخرّ راكعاً تائباً إلى الله العزيز الحكيم "فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ". كلمة (خَرّ) مشتقة من (خرير) وتعني سقوط شئ من علو ويسمعُ منهُ الصوت مثل صوت الشلالات، كما أنّها كناية ٌ عن السجود، حيث إنَّ الأفراد الساجدين يهوون من حالة الوقوف إلى السجود ويقترن ذلك بالتسبيح. كلمة (رَاكِعاً) التي وردت في هذه الآية، إمّا أنّها تعني السجود كما جاءت في اللُّغة، أو لكون الركوع مقدمةً للسجود. على أيّةِ حال، فالله سبحانه وتعالى شمل عبده داوود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، كما تُوضّحهُ الآية التالية (فغفرنا له ذلك). وإنّ له منزلةً رفيعةً عند الله (وإنّ له عندنا لزلفى وحسن مآب). (زلفى) تعني المنزلة (والقرب عند الله) و(حسن مآب) إشارةٌ إلى الجنّةِ ونعم الآخرة.

*******

زين العابدين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه الايات المباركة في سورة ص "وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ{۲۱} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ{۲۲} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ{۲۳} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ" هذان خصمان جاءا الى داوود عليه السلام، "تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ"، دخلوا بطريقة غريبة حتى يستفزوا داوود عليه السلام، كان يحكم، لم يدخلوا من الباب وانما تسوروا المحراب ففزع منهم بعد ذلك عرض احدهم المشكلة، قال "تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ" المسألة غريبة كذلك يعني الدخول غريب، لم يدخلا من الباب وانما تسورا المحراب، هذه تعطي فزعاً لداوود عليه السلام ثانياً القصة غريبة كذلك يعني هناك مظلومية كبيرة في الظاهر لصاحب النعجة "إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا" اجعلها في كفالتي "وعزني في الخطاب" يعني غلبني "قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ" هنا حكم داوود عليه السلام، هنا وقع الحديث حول هذا الحكم، كيف يحكم داوود "قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ{۲٤} فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ" هنا في عالم التفسير عندنا اتجاهان، الاتجاه الاول يقول ان قصة الخصمين كانت في عالم التمثل الملائكي يعني الخصمان من الملائكة تمثلوا لداوود عليه السلام وكان اختباراً الهياً ربانياً لداوود وهذا طبعاً لايضر بالعصمة، لماذا؟ لأن في عالم التمثل الملائكي، في سؤال نعجتك الى نعاجه يعني الله عزوجل يعلم انبيائه ويؤدب انبياءه قبل ان يقعوا في المشكلة فأذن اذا كان على الاتجاه الاول فأن القصة في عالم التمثل الملائكي لا في عالم التكليف ولافي عالم الواقع فهنا اراد الله عزوجل ان يهئ داوود للحكم بعد ذلك الاية السادسة والعشرون تقول "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ" اذن هذا هو الاتجاه الاول، هذا لايضر بالعصمة لأنه كما قلنا هو في عالم التمثل الملائكي فليس هناك خصومة ولاخصمان وانما الله عزوجل اختبر داوود عليه السلام فحكم قبل ان يسأل الاخر يعني كان من المفروض ان يسأل الاخر حينما قال له احدهم ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة قال اكفلينيها وعزني في الخطاب" رأساً داوود عليه السلام قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه، ممكن ان يكون هذا الحكم لايضر بالعصمة لأنه في عالم التمثل الملائكي. هناك اتجاه اخر يقول لا هذا قضاء في عالم الواقع يعني هناك خصمان واقعاً فيكون القضاء تقديري يعني ان صح قولك "إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ" ان صح قولك فلقد ظلمك "قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ" لكن يبدو من سياق الايات المباركة وروايات اهل البيت عليهم السلام ان الخصمين كانا من الملائكة وفي عالم التمثل وليس في عالم الواقع. عندنا رواية عن الامام الرضا عليه السلام "يقول فعجل داوود عليه السلام على المدعى عليه ولم يسأل المدعي البينة على ذلك فكان هذا خطيئة رسم الحكم" فأذا كان في عالم التمثل الملائكي فهو اختبار من الله عزوجل وتدريب وتعليم واذا كان في عالم الواقع فيجب ان نحمل هذا الحكم "لَقَدْ ظَلَمَكَ" نحمله على التقدير فيكون القضاء تقديرياً لاقضاءاً فعلياً يعني ان صح قولك "قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ" ومع ذلك كان من المفروض ان صح التعبير من الاولى لأن هنا عندنا داوود عليه السلام معصوم فينبغي ان نحمل الايات على احسن المحامل فهنا من الاولى ان يسأل الخصم قبل ان يحكم حتى لو كان في عالم التقدير، لو صح قولك، كان من الاولى ان يسأل الخصم مادام الخصم هو قرب داوود عليه السلام ولهذا كان اختباراً الهياً ربانياً لداوود لكي يهئ داوود عليه السلام الى استلام الحكم بعد ذلك تقول الاية "وظن داوود انما فتناه" اختفى الملائكة بعدما قال "لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ" اختفى الملائكة فعلم داوود ان هذا اختبار الهي رباني له وقال "وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ" طبعاً هذا استغفار من باب ترك الاولى. 
مستمعينا الكرام نتعرف اكثر على حقيقة هذه الآيات لاسيما ما يتعلق بعصمة الانبياء (عليهم السلام) وخاصةً داوود واستغفاره (عليه السلام) وغفران الله تعالى له عبر حديث ضيف هذا اللقاء.

القصة النبي داوود والخصمان


كان داوود (عليه السلام) كالمعتاد محاطاً بأعداد كبيرةٍ من الجند والحرس، إلا أنّه فجأة تمكن خصمان متنازعان ومن طريق غير مألوف تمكَّنا من الظهور أمام داوود (عليه السلام) ففزع عند رؤيتهما، إذ دخلا عليه بدون إستئذانٍ ومن دون إعلام مسبق، وظنَّ داوود (عليه السلام) أنَّهم يكنّون له السوء.
إلا أنّهما عمدا بسرعة إلى تطييب نفسه وإسكان روعه، وقالا له: لاتخف نحن متخاصمان تجاوز أحدنا على الآخر. فاحكم الآن بيننا ولا تتحيّز في حكمك وأرشدنا إلى الطريق الصحيح. عندما وضّح الأخوان هدف مجيئهما إليه هدأ قلق وروع «داوود» بعض الشئ، ولكن بقي هناك سؤال واحدٌ فقال: إذ كنتما لاتُكنّان السوء فما هو الهدف من مجيئكما إلى عن طريق غير مألوف؟ ولذلك تقدّم أحدهما وطرح المشكلة على داود، وقال: هذا أخي، يمتلك ۹۹ نعجة، وأنا لا أمتلك إلاَّ نعجة واحدة، وإنّه يُصرُّ علي أن أُعطيه نعجتي ليضمّها إلى بقّية نعاجه، وقد شدّد عليّ في القول وأغلظ. هنا التفت داوود (عليه السلام) إلى المُدَّعي قبل أن يستمع كلام الآخر وقال: "لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ". ثم اضاف "وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ". على أية حال، اقتنع طرفا الخصام بكلام داوود (عليه السلام) وغادرا المكان.
ولكنّ داوود غرق في التفكير بعد مغادرتهما، رغم أنه كان يعتقد أنّه قضى بالعدل بين المتخاصمين، ‌فلو كان الطرف الثاني مخالفاً لإدّعاءات الطرف الأوّل أي المدّعي، لكان قد اعترض عليه، إذن فسكوته هو خير دليلٍ على أنّ القضيّة هي كما طرحها المدّعي. ولكنّ آداب مجلس القضاء تفرض على داود أن يتريّث في إصدار الأحكام ولا يتعجّل في إصدارها، وكان عليه أن يسأل الطرف الثاني أيضاً ثمّ يحكم بينهما، فلذا ندم كثيراً على عمله هذا،‌ و ظنّ أنّما فتنه الباري عزّوجلّ بهذه الحادثة "وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ". وهنا أدركته طبيعته، وهي أنّه أوّاب، إذ طلب العفو والمغفرة من ربه وخرّ راكعاً تائباً إلى الله عزيز الحكيم "فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ". شمل الله سبحانه وتعالى عبده داوود بلطفه وعفا عن زلّته من حيث ترك العمل بالأولى، فغفر الله له ذلك واعطاه منزلةً رفيعةً عنده.

من هدى الائمة _عليه السلام_


سُئل الامام الرضا (عليه السلام) عن خطيئة داوود (عليه السلام)؟ فقال (عليه السلام): "إنَّ داوود (عليه السلام) إنّما ظن أنهُ ما خلق الله خلقاً هو أعلمُ منه فبعث الله عزَّوجل إليه الملكين فتسوَّرا المحراب فقالا: (خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إنَّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة ٌواحدةٌ فقال أكفِلنيها وعزَّني في الخطاب)، فعجَّل داوود على المُدَّعي عليه فقال لقد ظلمك بسوال نعجتك الى نعاجه ولم يسأل المدعي البيّنةَ على ذلك، ولم يُقبل على المُدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئةُ رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه". في اشارةٍ منه عليه السلام الى الاسرائيليات التي نسبوها الى داوود (عليه السلام)، ثم اضاف الامام الرضا (عليه السلام) "ألا تسمع الله عزَّوجلَّ يقول: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ"، إلى آخر الآية".

دروس وعبر

على الحاكم بين الناس ان لايتسرع في الحكم وإن كانت القضية ظاهرةً واضحةً عنده بل لابدَّ من الاستماع الى كلام الطرفين وهكذا كل من صار حكما بين اثنين عليه ان يُعطي فرصةً للكلام وللاستماع واحترام اطراف النزاع.
يُؤكد هذا المقطع من الآية الشريفة: "وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ"، ان الأشخاص الذين يُراعون بصورة كاملة في معاشرتهم وصداقتهم الطرف المقابل، ولايعتدون عليه أدنى إعتداء ويؤَدَّون حقوق أصدقائهم ومعارفهم بصورةٍ كاملة فهم قليلون جدّاً، وهم المتزودّون بالإيمان والعمل الصالح.
لا اشكال في ان تزداد اموال الانسان ولكن ليس على حساب اموال الآخرين لاَّن ذلك يُعتبر شكلاً من اشكال الظلم وهذا ما يشير اليه قول داوود للمشتكي "قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ".
هذا المقطع من الآية يشير "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" الى صفتي الشريك الذي يمكن الوثوق به في الأعمال وهما الإيمان والعملُ الصالح.
إنّ رعاية حقوق الناس بما فيه الحكم بالعدل بينهم من اهم ضروريات الدين التي لو استعجل في ذلك حتى الانبياء لوجب عليهم الاستغفار والانابة.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة