بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله وحبيبه محمد وآله الطيبين الطاهرين … السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلا بكم إلى برنامج القصص الحق، وفي هذا اللقاء سنتعرف على حكاية قرآنية معبرة أخرى هي الحكاية التي تشير إليها بدايات سورة التحريم.
وبعد مقدمة عن الحكاية ننصت معا إلى تلاوة مرتلة لهذه الآيات ثم نقف عند معاني المفردات والعبارات القرآنية التي وردت فيها …
* نستمع إلى إجابة خبير هذا اللقاء سماحة السيد عبد السلام زين العابدين أستاذ العلوم القرآنية عن سؤال بشأن الحكاية ثم ننتقل إلى محطة القصة ونتابع معا تفاصيلها
* ونستمر في تقديم البرنامج بفقرة من هدي الأئمة (عليهم السلام)
* وأخيرا مع باقة من الدروس المستفادة من هذه القصة القرآنية فتابعوا هذا البرنامج مع تمنياتنا أن يروق لكم
المقدمة
مستمعينا الكرام أهلا بكم من جديد، الموضوع الذي تبحثه الآيات التالية يرتبط بالنبي حيث يهم أمره المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء، ولهذا يكون التعامل مع أية دسيسة حتى لو كانت بسيطة تعاملا حازما وقاطعا لا يسمح بتكرارها، ولكي لا تتعرض حيثية الرسول واعتباره إلى أي نوع من التصدع والخدش، والآيات محل البحث تعتبر تحذيرا من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظا على اعتبار الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) فلنستمع خاشعين إلى تلاوة هذه الآيات من سورة التحريم.
التلاوة
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{۱} قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{۲} وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ{۳} إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ{٤}"
المفردات
مستمعينا الكرام البداية كانت خطابا إلى الرسول: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ" من الواضح أن هذا التحريم ليس تحريما شرعيا، بل هو – كما يستفاد من الآيات اللاحقة – قسم من قبل الرسول الكريم، ومن المعروف ان القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنبا. وبناءا على هذا فإن جملة (لِمَ تُحَرِّمُ) إنما هي نوع من الإشفاق والعطف. تماما كما نقول لمن يجهد نفسه كثيرا لتحصيل فائدة معينة من أجل العيش ثم لا يحصل عليها، نقول له: لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحد دون أن تحصل على نتيجة توازي ذلك التعب ؟
ثم يضيف في آخر الآية "وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" وهذا العفو والرحمة إما هو لمن تاب من زوجات الرسول اللاتي رتبن ذلك العمل وأعددنه. أو أنها إشارة إلى أن الرسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا القسم الذي سيؤدي لربما إلى جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليه …ويضيف في الآية اللاحقة أن الله قد أوضح طريق التخلص من مثل هذا القسم بقوله تعالى: " قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ" أي اعط كفارة القسم وتحرر منه.
ويذكر أن الترك إذا كان راجحا على العمل فيجب الإلتزام بالقسم والحنث فيه ذنب تترب كفارة عليه، أما في الموارد التي يكون فيها الترك شيئا مرجوحا مثل هذه الآية فإنه يجوز الحنث في القسم، ولكن من الأفضل دفع كفارة من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه. ثم يضيف "وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". بمعنى أنه قد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلص منها طبقا لعلمه ولحكمته .
ويستفاد من بعض الروايات أن النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلل ما كان قد حرمه بالقسم …. وفي الآية اللاحقة يتعرض لهذا الحادث بشكل أوسع: "وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن". ولكن ما هذا السر الذي أسره النبي لبعض زوجاته ثم لم يحفظنه؟ طبقا لما يذكر في أسباب النزول فإن هذا السر يتكون من أمرين،
الأول: تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش).
والثاني: تحريم العسل على نفسه في المستقبل.
أما الرسول فقد اطلع على إفشاء هذا السر عن طريق الوحي، وذكر بعضه لإحدى زوجاته ومن أجل عدم إحراجها كثيرا لم يذكر لها القسم الثاني "ولعل القسم الأول يتعلق بأصل شرب العسل والثاني هو تحريم العسل على نفسه".... وعلى كل فإنه: "فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ"
*******
زين العابدين: بسم الله الرحمن الرحيم طبعاً اكيد من سياق الاية المباركة "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" هنا قالت ياايها النبي ولم تقل يا ايها الرسول في اشارة ان هناك قضية خاصة بين النبي وبين ازواجه وليست بين النبي وبين الناس مثلاً "ياايها الرسول بلغ ما انزل اليك" هنا جاءت للرسول لأن علاقة تبليغ اما هنا قالت "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ" هذا يدل الى ان او اشارة الى ان التحريم كان تحريماً شخصياً يعني منعاً وليس تحريماً بالمعنى التشريعي يعني الرسول الاكرم صلى الله عليه واله وسلم بسبب ما حرم على نفسه ما هو حلال، حرم بمعنى منع ان يأكل شيئاً او ان يقول شيئاً او يفعل شيئاً هو حلال في اصله ولكنه منعه على نفسه فالاية تشير "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" الاية تشير الى ان هناك عملاً محللاً كان يعمله النبي صلى الله عليه واله لاترتضيه ازواجه او بعض ازواجه ماسبب على حركتهن على شكل ضغوطات ادت الى النبي صلى الله عليه واله الى ان يحلف ويقسم على ترك هذا الامر وعدم عمله مع كونه حلالاً وهنا كما قلنا جاء بلفظ النبي "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ" وليس بالرسول يشير الى ان المسألة كانت على نفسه وليست بالمسلمين يعني ليس تشريعاً وانما كان من باب شخصي فمن هنا ان هذا التحريم لم يكن تحريماً تشريعياً عندما كان بمعنى المنع الشخصي على نفسه فالعتاب هنا موجه الى زوجات النبي من باب "اياك اعني واسمعي يا جارة" يعني الخطاب للنبي والمقصود غيره يؤيد ذلك في سياق الاية في سورة التحريم يخاطب نساء النبي او بعض نساء النبي "إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" صغت يعني مالت من الحق الى الباطل "وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ" النبي اسر، اسر بمعنى افظى واخبر مع الوصية بالاخفاء والكتمان يعني انا حينما اخبر انسان بشيء واؤكد عليه ان يكتم هذا الشيء ولايذيع هذا الامر هذا يسمى الاسرار "وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً" يعني هناك سر قاله النبي لبعض زوجاته واوصاها ان تكتم هذا السر بيد انها لم تلتزم بذلك فأعلنته لبعض الناس وافشت هذا السر، الروايات تؤكد ان الاية نزلت في زوجتين من زوجات النبي حتى الرواية واردة عن عمر بن الخطاب بأنها نزلت في عائشة وفي حفصة، حفصة بنت عمر وعائشة بيت ابي بكر زوجات النبي صلى الله عليه واله وسلم وبعضها تقول بحفصة بنت عمر فقط هي التي افشت السر خلافاً لما اوصاها النبي الاكرم ولهذا تقول الاية "إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" يعني الامر يبدو امراً كبيراً جداً، كان السر الذي اسره النبي الى بعض ازواجه كان امراً ربما يتعلق بالامور السياسية او اوضاع المسلمين المستقبلية وليس قصة شخصية فالقصة اكبر من ان تكون على شراب عسل او غيره من نساء النبي صلى الله عليه واله وسلم، يبدو ان هناك جيشاً، الله عزوجل هددهن بجيش، جيش مؤلف من قوات، من جبرئيل والملائكة وصالح المؤمنين، وردت روايات اهل البيت بصالح المؤمنين هو علي بن ابي طالب عليه السلام فالقصة تحتاج في حقيقة الامر الى بحث وتدبر ونأخذ الامور ببساطة جداً بحيث نجد ان النبي امتنع وهذا الامر كان سراً شخصياً وانما يبدو هذا السر الذي افشته بعض نساء النبي كان سراً خطيراً يتعلق بمستقبل الرسالة الاسلامية ومستقبل المسلمين.
أساسا ما معنى التحريم المذكور في الآية هل هو المنع أو التحريم الشرعي على نفس الرسول؟ وكيف يحرم رسول الله أمرا أحله الله سؤال أجاب عنه سماحة السيد عبد السلام زين العابدين الأستاذ في العلوم القرآنية من مدينة قم المقدسة.
*******
القصة
كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتى تأتي إليه بعسل كانت قد هيأته له ولكن لما سمعت إحدى زوجاته بذلك شق عليها الأمر، ولذا اتفقت مع ضرتها الأخرى على أن يسألا الرسول بمجرد أن يقترب من أي منهما بأنه هل تناول صمغ (المغافير) (وهو نوع من الصمغ يترشح من بعض أشجار الحجاز الذي يترك رائحة غير طيبة، علما أن الرسول كان يصر على أن تكون رائحته طيبة دائما ) وفعلا سألت إحداهن الرسول هذا السؤال يوما… ورد الرسول بأنه لم يتناول صمغ المغافير ولكنه تناول عسلا عند زوجته زينب بنت جحش ولهذا أقسم بأنه سوف لن يتناول ذلك العسل مرة أخرى خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذت على شجر صمغ المغافير وحذرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أن الرسول قد حرم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرسول ويحرمونه أو ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألم لذلك. لكنها أفشت السر فتبين أخيرا أن القصة كانت مدروسة ومعدة ولم تكن سوى مؤامرة فتألم الرسول لذلك فنزلت عليه الآيات لتوضح الأمر وتنهي من أن يتكرر ذلك مرة أخرى في بيت رسول الله.
دروس وعبر
* يمكن أن نلاحظ بشكل واضح – من خلال حياة الرسول
– أن بعض زوجاته لم يدركن مقام النبوة فحسب، بل كن يتعاملن معه كإنسان عادي، وأحيانا يتعرضن له بالإهانة.
* وبناءا على هذا فإنه لا معنى للإصرار على أن جميع زوجات الرسول كن على قدر عال من الكمال واللياقة، خصوصا مع الأخذ بالإعتبار صىراحة الآيات السابقة.
* إن حفظ السر والمحافظة عليه وعدم إفشائه، ليس فقط من صفات المؤمنين، بل هي صفة ينبغي توفرها بكل إنسان ذي شخصية قوية محترمة، وتتجلى أهمية هذه الصفة أكثر من الأصدقاء والأقرباء وبالأخص بين الزوج والزوجة. وقد لاحظنا في الآيات السابقة كيف أن القرآن لام أزواج النبي بشدة ووبخهن على إفشائهن للسر وعدم محافظتهن عليه.
* يتضح من مجموع هذه الآيات أن بعض زوجات الرسول لم يكتفين بإيذاء
النبي بكلامهن، بل لا يحفظن سره، وحفظ السر من أهم صفات الزوجة الصالحة الوفية لزوجها، وكان تعامل الرسول معهن على العكس من ذلك تماما إلى الحد الذي لم يذكر لها السر الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه.
*من المؤكد أن الله لم يحلل أو يحرم شيئا إلا طبقا لحسابات ومصالح دقيقة، وبناءا على هذا فلا مجال لأن يقوم الإنسان بتحليل الحرام أو تحريم الحلال حتى مع القسم فإن الحنث جائز في مثل هذه الموارد.