وكان منظِّرو العقيدة الصهيونية - آنذاك - يطرحون المسألة بثلاثة وجوه:
الأول: المظلومية التاريخية التي عاشها اليهود قرون طويلة منذ انهيار سلطتهم في أرض كنعان (قبل الميلاد)، وما رافقها من اضطهاد ونكبات وتشتت، استمر حتى بدايات القرن العشرين.
الثاني: تسويغ كل أساليب الرد على المظلومية، وهو ما أسموه بإحقاق الحق، والمتمثل في ممارسة أقصى مظاهر العنف والإرهاب والعدوان ضد الآخرين. فضلاً عن الوسائل التقليدية كالتآمر والمال والجنس: من أجل بلوغ الأهداف التي حددوها.
الثالث: الحصول على تعويضات مجزية لما تعرض له اليهود من اضطهاد، وفي مقدمة تلك التعويضات إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ باعتبارها الأرض التي يمكنها لم شتاتهم.
هذه التوجهات شكّلت مساحة مشتركة مع طموحات الإمبراطورية البريطانية، والتي عملت من خلال وزارة المستعمرات على تحويلها ورقة عمل استراتيجية، تهدف إلى زرع كيان صهيوني في قلب المنطقة الإسلامية، ليكون خندقاً استراتيجياً متقدماً للخارطة الاستعمارية البريطانية، وبؤرة توتر دائمة تشكل أداة استثمار لبريطانيا تحفظ لها حضورها المتواصل في المنطقة، على العكس من كل المستعمرات الأخرى التي يمكن أن تحصل على استقلالها في يوم ما. وهكذا نجح المخطط الغربي في تطويع المسألة اليهودية باتجاه تحقيق أهدافه، ولم يكن هناك أدوات أهم وأكثر تأثيراً من اليهود الصهاينة؛ بالنظر لوحدة الهدف بين الطرفين.
ومع بدء العصابات الصهيونية في تنفيذ مخطط إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ تكون المرحلة الرابعة من التاريخ اليهودي قد بدأت. ويمكن ترتيب هذه المراحل على النحو التالي:
المرحلة الأولى: مرحلة الطغيان:
رافقت هذه المرحلة هيمنة بني إسرائيل على السلطة في أرض كنعان وبعض الأراضي المجاورة، وهي المرحلة التي طبعت تاريخ اليهود وساهمت في تكوينهم، جرّاء نوعية الممارسات التي قاموا بها، والتي لم تقف عند حدود قتل الأنبياء والصالحين وأبنائهم، وتسويغ كل ألوان العدوان ضد الأقوام الأخرى، بل تعدتها إلى الافتراء على الله وإلى كثير من أنواع الفساد في الأرض، وهو ما تشير إليه كثير من الآيات القرآنية والمدونات التاريخية.
المرحلة الثانية: مرحلة القهر:
في هذه المرحلة اضطر اليهود للتنظير لأساليب سليمة للتعايش مع الأغيار (الشعوب غير اليهودية) ومع قوى الاحتلال والغزو (البابليون والرومان تحديداً)، حفاظاً عل حياة اليهود ووجودهم. وكان ممن نظّر لهذه الأساليب الحاخام «يوحنا بن راكاي»، الذي عاش الحصار الروماني للقدس في القرن الأول قبل الميلاد. وكذلك الحاخام «يهوذا الأمير» الذي وثّق علاقته بالإمبراطور الروماني «انتونيوس». وقد سعى عشرات الحاخامات الآخرين في القرن الثالث الميلادي، يرأسهم «يهودا هاناسى» عبر تحرير كتاب «المنشاه» إلى دعوة اليهود لتجنب الاستعمال المفرط للعنف والقوة ضد الآخرين، والذي كان يقضي على وجودهم. وطالبت تعاليم هذا الكتاب اليهود باتِّباع الوسائل السلمية في مرحلة الضعف والشتات. وبقيت هذه النزعة سائدة غالباً قرون طويلة، مقترنة باستثمار ثلاثة عوامل بديلة: المال والجنس والتآمر السياسي والاجتماعي.
المرحلة الثالثة: مرحلة الاستقرار:
وهي التي بدأت مع انتشار الإسلام واتساع رقعة دول المسلمين؛ فقد عاش اليهود أفضل حالات الاستقرار والأمان والرخاء في ظل مجتمعات المسلمين سواء في البلدان العربية أو تركيا أو إيران أو الأندلس، على الرغم من استمرار تآمر شرائح من اليهود ضد المسلمين، منذ فجر الإسلام وحتى الآن.
المرحلة الرابعة: مرحلة استدعاء الطغيان:
وقد بدأت مع التحالف المصيري بين وزارة المستعمرات البريطانية واليهود الصهاينة وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، إضافة إلى تحرك اليهود الروس. وقد ساهمت أحداث العنف التي استهدفت يهود أوروبا وروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، وخاصة المذابح الجماعية الروسية (البوغروم) عام 1903، بدوافع عنصرية وسياسية ودينية، ساهمت في دفع يهود أوروبا وروسيا إلى إيقاظ تعاليم وتقاليد العنف والإرهاب اليهودية التاريخية، التي ظلت نائمة غالباً قرون طويلة. وكان هذا الاستدعاء براغماتياً ولوناً فاقعاً من ألوان الدجل السياسي؛ لأن هذه الفئة من اليهود التي بادرت إلى هذا العمل كانت في غالبيتها علمانية وملحدة. ولم يكن يربطها بتعاليم التوراة أو اليهودية المتدينة رابطة تذكر، إذ أنها عمدت إلى انتقاء بعض التعاليم اليهودية التي تدعو إلى القتل والعنف واستباحة دماء (الأغيار) وأموالهم وأعراضهم، واستخدام أية وسائل لا أخلاقية ولا إنسانية بهدف الوصول إلى الغايات المرسومة.
وهكذا ولدت الصهيونية في رحم جمهرة من السياسيين والمثقفين والمحامين اليهود العلمانيين، يتقدمهم «هرتزل»، والذين دعوا اليهود إلى الثورة أيضاً ضد الديانة اليهودية وتعاليم أنبياء اليهود، باعتبارها تقف عقبة دون تحقيق طموحات اليهود؛ بسبب بعض أوامرها إلى اليهود بالتعايش مع الآخرين، ومن هؤلاء الشاعر الروسي اليهودي الصهيوني «بياليك» الذي طالب قبضات اليهود أن «تطير مثل الأحجار ضد السماء وضد العرش السماوي»، وكذلك الأديب اليهودي الصهيوني الروسي الذي طالب اليهود بمخالفة التوراة بقوله: «يا إسرائيل ليس العين بالعين، إنّما عينان بعين، بل أسنانهم كلها أمام كل إهانة».
وما نريد أن نخلص إليه هنا هو أن الممارسات العدوانية لليهودية الصهيونية لا تمثل استثنائية، أو مجرد ردود أفعال على أحداث أو اعتداءات: بل هي تعبير عن بنية فكرية ومنظومة عقيدية لا ترى إلا نفسها وأهدافها، ولا تعترف بأي ندٍّ أو نظير لها في الإنسانية، وبالتالي لا تعترف بأي حق للآخر في أي شيء. وليس مسلسل العدوان المستمر ضد البشر والحجر والقيم في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، منذ مطلع القرن العشرين، وصولاً الى العدوان على لبنان وشعبه ومقاومته الإسلامية في تموز/ يوليو 2006، وحتى العدوان على غزة وجنوب لبنان في تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، إلّا تطبيقات ميدانية لهذه المنظومة.
ولعل من أكبر الإنجازات التي حققتها الصهيونية اليهودية العالمية، فضلاً عن استيلائها بالقوة على فلسطين، هو الدعم المطلق الذي ظلت تحصل عليه من الصهيونية المسيحية في الغرب، التي تعتمد في بنيتها النظرية مجموعة من النصوص المنتقاة من التوراة، إضافة إلى تفسيرات ونبوءات تلمودية وأخرى مسيحية تعود إلى مرحلة الحروب الصليبية. وبالتالي؛ فإن التحالف الديني السياسي المالي بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية، يستند غالباً إلى رؤى ايديولوجية مشتركة، تتمظهر في وحدة النظرة إلى شكل العالم ومضمونه وحاضره ومستقبله، وما ينطوي عليها من قضايا دينية غيبية لها علاقة بآخر الزمان. ولا شك أن ذلك التحالف وهذه الوحدة والرؤية الكونية يمثل وجهي الصهيونية، وينتج عنه بالضرورة وحدة في المواقف السياسية والإستراتيجية. ووفقاً لذلك يمكن فهم خلفية ربط الصهيونية المسيحية الغربية مصيرها بمصير إسرائيل ووجودها.
يستند الغرب، وخاصة بريطانيا التي خلقت الكيان الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأمريكية التي تحميه بالمطلق، الى العقيدة الصهيونية المسيحية، كنزعة دينية، إنما تستند الى التوصيف الجيوستراتيجي للكيان الإسرائيلي، بوصفه المعسكر الاستعماري الذي بنته بريطانيا في قلب العالم العربي والإسلامي، ليكون خندقاً متقدماً يحمي مصالحها. ولذلك؛ فإن الغرب عموماً، وبريطانيا وأمريكا خصوصاً، يعتبر الكيان الإسرائيلي جزءاً لا يتجزء من وجوده وأراضيه وجغرافيته، وليس مجرد مستعمرة غربية أو مجالاً حيوياً. ولعل بعض الجماعات اليهودية غير الصهيونية، ومنها جماعة (ناتوري كارتا) التفتت الى ماهية هذا المشروع الغربي الاستكباري المسمى (إسرائيل)، واعتبرته مؤامرة على اليهود والدين اليهودي، وأن الغرب يريد التضحية بالأُمة اليهودية من أجل مصالحه.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن النزوع المتجذر في الشخصية اليهودية التاريخية أو مجتمع اليهود التاريخي التقليدي نحو العدوان والإفساد والتآمر، لا علاقة له بالديانة اليهودية وتعاليمها الأصلية، فهناك فرق بين اليهود كعصبية تاريخية وبين اليهودية كديانة سماوية، وفرق آخر بين اليهود كأفراد ومجتمعات إنسانية قائمة وبين العصبية اليهودية التاريخية، فاليهودي كإنسان لا يمكن أن يتحمل أوزار العصبية التاريخية خلال ثلاثة آلاف عام، إلا إذا أصبح جزءاً منها وامتداداً لها، أي أنّ اليهودي له كل الحق في العيش في هذا العالم وممارسة ما يفرضه عليه انتماؤه من حقوق وواجبات، ومن ذلك عباداته وطقوسه، حتى داخل الدولة الإسلامية، فذلك ما تقره الشريعة الإسلامية بكل حزم، وتبيّنه سيرة المسلمين طيلة مئات من السنين. وبالتالي فإننا حين نتحدث عن اليهود؛ فإننا لا نقصد بذلك اليهودية كديانة أو اليهودي كإنسان، بل العصبية اليهودية التاريخية وتطبيقها المعقد المعاصر المتمثّل في العقيدة الصهيونية، التي تمثل نتاجاً مشتركاً لليهود العلمانيين واليهود المتدينين القوميين.
خصائص العقيدة الصهيونية
من أكبر الآثام التاريخية التي ارتكبها اليهود بحق ديانتهم هو التحريف الذي ألحقوه بها، وهو ما لا تخفيه مصادر الفكر اليهودي؛ فالتوراة المختلَف عليها والتي تشتمل على خمسة أسفار من العهد القديم؛ بعد أن فُقدت عقيب وفاة النبي موسى، عمد بعض الكهنة بعد عدة قرون على وفاة الكليم، إلى إملاء بعض التعاليم والأسفار ونسبوها إليه. كما أن أسفار الأنبياء والكتابات في العهد القديم منسوبة - هي الأخرى - إلى كهنة وأحبار عاشوا متأخرين بعد قرون عن هؤلاء الأنبياء. ولا نريد الدخول في تفاصيل عملية الاختلاق والتحريف هذه، إذ إنها من القضايا التي أُشبعت بحثاً(1). ويكفي أن «ول ديورانت» يؤكد أنه لم تبق من شريعة موسى سوى الوصايا العشر(2). أي إنّ العهد القديم ضمّ بين دفتيه الصحيح والمحرف والموضوع، مع عدم إمكانية الفصل بينها؛ بعد أن اختلطت ببعضها وانتهت إلى مضمون وشكل موحد. كما وضع الأحبار كتاب التلمود بعد حوالي قرنين على ولادة النبي عيسى، وجعلوه شريعة بني إسرائيل، وهو يحوي على تعاليم شفوية وشروحات وتفاسير كتبها الأحبار في أزمان مختلفة، وأصبح التلمود قريناً للتوراة(3).
واستمرت مصادر الفكر اليهودي بالتبلور بظهور عدد من المؤلفات، أهمها ما كتبه الفيلسوف اللاهوتي اليهودي موسى بن ميمون في القرن الثامن الهجري، ثم اكتملت بما عرف بـ «بروتوكولات حكماء صهيون»(4)، الذي يعد النظام الأساسي المعاصر للعصبية التاريخية، والتي أطلقت عليها فيما بعد «الصهيونية»، وهو ما سنأتي عليه لاحقاً...
د. علي المؤمن
ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية (2)
-----
(1) أُنظر: في هذا المجال: د. أحمد شلبي، «اليهودية»، ورحمة الله الهندي، «إظهار الحق»، وعصام الدين حفني، «محنة التوراة على أيدي اليهود»، ود. جعفر هادي حسن، «فرقة القرائين اليهود».
(2) قصة الحضارة، ج2 ص 371. انظر أيضاً: موريس بوكاي، «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم».
(3) للمزيد أُنظر: «التلمود شريعة إسرائيل: الكنز المرصود في قواعد التلمود». ترجمة د. يوسف نصر الله.
(4) أُنظر: «الخطر اليهودي: بروتوكولات حكماء صهيون»، ترجمة: محمد خليفة التونسي، وعبد الله التل، «خطر اليهود على الإسلام والمسيحية».