لطالما احتلت النصيحة بالشجاعة والثبات والبصيرة في مواجهة المشاكل والأزمات مكانة مرموقة في تاريخ الفكر والثقافة الدينية. يحتاج المجاهدون والساعون في سبيل الحق، إلى نهج حكيم في اللحظات الحرجة من حياتهم ومواجهة الأعداء؛ نهج لا يعتمد فقط على الشجاعة والتضحية، بل يدعوهم أيضًا إلى اليقظة واغتنام الفرص، وتجنب التهاون والاكتفاء بمظاهر الوضع.
تُذكرنا هذه التعاليم بأنه في المسارات الصعبة، لا ينبغي للمرء أن يعتبر التراجع أو المناورات التكتيكية نهاية المطاف أو السذاجة بشأن المستقبل. إن استغلال اللحظات الحاسمة بحكمة، والاستعداد النفسي والبدني لأي موقف، هما أهم عوامل النجاح في الامتحانات الصعبة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام، في معرض حديثه عن الاستراتيجيات التكتيكية في المعركة ضد العدو:
"لَا تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ وَلا جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ، وَأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا وَ[وَطِّنُوا] وَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا، وَاذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الدَّعْسِيِّ وَالضَّرْبِ الطِّلَحْفِيِّ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ".
المقصود أن الظروف أحيانًا تقتضي فرار المقاتلين مؤقتًا ليُهجم عليهم العدو، فيعودوا فجأةً فيفاجئوه ويسحقوه بهجومٍ عنيف. وهو في الحقيقة نوعٌ من التراجع التكتيكي الشائع في الحروب، وقد تُكلّف مقاومته الجيش غاليًا، ولذلك قال الإمام علي عليه السلام: "لَا تَشْتَدَّنَّ عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ وَلَا جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ".
أما الجملة الثانية في كلام الإمام علي (ع) فتشير إلى السير في هذا الاتجاه وتلك قبل الهجوم، لأن الجندي الشجاع أحيانًا يُغيّر موقعه في الميدان لمهاجمة العدو، ويتحرك ليحصل على نقطة يُحسّن منها الهجوم أو يُرهق العدو؛ فلا مانع من الفرار الذي يتبعه هجومٌ مُجدّد، ولا من السير الذي يبدأ بعد تلك الهجمات.
بعبارة أخرى، يظنّ بعض المُغترين أن الفرار بأي شكلٍ من الأشكال عار، وكذلك تأخير العدو في الميدان بالسير المُتكرر؛ مع أن أيًا منها ليس عيبًا، بل هو أسلوب من أساليب النضال، وفي كثير من الأحيان عامل من عوامل النصر. (رسالة الإمام أمير المؤمنين (ع) - شرح آية الله مكارم الشيرازي).
يوصي أمير المؤمنين (ع) في قوله «وَأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا» أصحابه بالقيام بحقوق السيوف في ساحة المعركة؛ أي القتال بكل ما أوتوا من قوة وشجاعة وجرأة، وعدم التراخي. وهذا يعني استخدام الأسلحة والمعدات الحربية استخدامًا صحيحًا ودقيقًا، وعدم السماح بأي تراخٍ أو تقصير في أداء واجباتهم القتالية.
ويتابع (ع) قائلًا:
"وَ[وَطِّنُوا] وَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا"، وهذا يعني أي أنه عليكم التضحية بالنفس، وأن تكونوا على أتم الاستعداد ذهنيًا وجسديًا للتضحية بأنفسكم. لأن الهزيمة أو النصر الحقيقيين يعتمدان على روح التضحية والاستعداد للفداء.
كما يتابع الإمام (ع) حديثه قائلاً:
"وَاذْمُرُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ الدَّعْسِي وَالضَّرْبِ الطِّلَحْفِي". والمقصود أن تنظروا إلى المعركة على أنها ساحة مواجهة مباشرة وخطيرة، وأن تُعدّوا قلوبكم للوقوف في قلب المعركة وفي أشد لحظات الحرب؛ أي أن تُعوّدوا نفوسكم بالتخطيط والتدريب على التضحية واحتضان الصعاب، ومواجهة العدو بشجاعة، وإظهار أقصى درجات الثبات في أداء واجب المقاتل، لأن النصر في مثل هذه الظروف من نصيب المقاتلين الذين يستعدون لأعظم التضحيات ويقاومون أصعب اللحظات.