شهادة أهل البيت (ع)
علي الأكبر
ولمّا لَم يبقَ مع الحسين إلاّ أهل بيته، عزموا على ملاقاة الحتوف ببأس شديد وحفاظ مرّ ونفوس أبيّة، وأقبل بعضهم يودّع بعضاً وأول مَن تقدّم أبو الحسن علي الأكبر وعمره سبع وعشرون سنة وكان أشبه الناس برسول الله خَلقا وخُلُقا ومنطقا، فأحطن به النسوة وتعلّقن بأطرافه وقلن: ارحم غربتنا، لا طاقة لنا على فراقك. فلم يعبأ بهنّ؛ لأنّه يرى حجّة الوقت مكثوراً قد اجتمع أعداؤه على إراقة دمه الطاهر، فاستأذن أباه وبرز على فرس للحسين تسمّى لاحقاً.
ومن جهة أنَّ ليلى اُمّ الأكبر بنت ميمونة ابنة أبي سفيان صاح رجل من القوم: يا علي إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد، ونريد أنْ نرعى الرحم، فإنْ شئت آمنّاك. قال (عليه السّلام): إنّ قرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحقّ أنْ تُرعى. ثمّ شدّ يرتجز معرِّفاً بنفسه القدسيّة وغايته السّامية:
أنا علي بن الحسين بن علي
نحن وربُّ البيت أُولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
أضرب بالسيف اُحامي عن أبي
ضرب غلام هاشميًّ قرشي
ولَم يتمالك الحسين (عليه السّلام) دون أن أرخى عينيه بالدموع وصاح بعمر بن سعد: «ما لك؟ قطع الله رحمك كما قطعتَ رحمي، ولَم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسلّط عليك من يذبحك على فراشك». ثمّ رفع شيبته المقدّسة نحو السّماء وقال: «اللهمّ اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك محمّد خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض، وفرِّقهم تفريقاً، ومزِّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدَوا علينا يقاتلونا»، ثمّ تلا قوله تعالى: (إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
ولم يزل يحمل على المَيمنة ويعيدها على المَيسرة ويغوص في الأوساط، فلَم يقابله جحفل إلاّ ردّه، ولا برز إليه شجاع إلاّ قتله، فقتل مئة وعشرين فارساً. وقد اشتدّ به العطش فرجع إلى أبيه يستريح ويذكر ما أجهده من العطش فبكى الحسين (ع) وقال: «وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها» وأخذ لسانه فمصّه ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه.
ورجع علي إلى الميدان مبتهجاً بالبشارة الصادرة من الإمام الحجّة (عليه السّلام) بملاقاة جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فزحف فيهم زحفة العلوي السّابق، وغبَّر في وجوه القوم ولَم يشعروا أهو الأكبر يطرد الجماهير من أعدائه أم أنّ الوصي (عليه السّلام) يزأر في الميدان؟ أم أنّ الصواعق تترى في بريق سيفه فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتّى أكمل المئتين.
فقال مرّة بن منقذ العبدي: عليَّ آثام العرب إنْ لَم أثكل أباه به. فطعنه بالرمح في ظهره وضربه بالسّيف على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه فاحتمله إلى معسكر الأعداء، وأحاطوا به حتّى قطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً.
ونادى رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، وهو يقول: إنّ لك كأساً مذخورةً. فأتاه الحسين (عليه السّلام) وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدِّه وهو يقول: «على الدنيا بعدك العفا، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، يعزّ على جدّك وأبيك أنْ تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك».
ثمّ أخذ بكفّه من دمه الطاهر ورمى به نحو السّماء فلَم يسقط منه قطرة. وأمر فتيانه أنْ يحملوه إلى الخيمة، فجاؤوا به إلى الفسطاط الذي يقاتلون أمامه.
وحرائر بيت الوحي ينظرن إليه محمولاً قد جللته الدماء بمطارف العزّ حمراء وقد وزع جثمانه الضرب والطعن، فاستقبلنه بصدور دامية وشعور منشورة وعولةٍ تصكُّ سمع الملكوت وأمامهنّ عقيلة بني هاشم زينب الكبرى ابنة فاطمة بنت رسول الله (ص) صارخةً نادبةً فألقت بنفسها عليه تضمّ إليها جمام نفسها الذاهب، وحمى خدرها المنثلم وعماد بيتها المنهدم.
عبد الله بن مسلم
وخرج من بعده عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، واُمّه رقية الكبرى بنت أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يقول:
اليوم ألقى مسلماً وهو أبي
وعصبة بادوا على دين النبي
فقتل جماعة بثلاث حملات. ورماه يزيد بن الرقاد الجهني، فاتقاه بيده فسمرها إلى جبهته، فما استطاع أنْ يزيلها عن جبهته فقال: اللهمّ انّهم استقلونا واستذلونا فاقتلهم كما قتلونا. وبينا هو على هذا إذ حمل عليه رجل برمحه فطعنه في قلبه ومات.
حملة آل أبي طالب
ولمّا قُتل عبد الله بن مسلم، حمل آل أبي طالب حملة واحدة، فصاح بهم الحسين (عليه السّلام): «صبراً على الموت يا بني عمومتي، والله لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم»، فوقع فيهم عون بن عبد الله بن جعفر الطيّار، واُمّه العقيلة زينب، وأخوه محمّد، واُمّه الخوصاء، وعبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب، وأخوه جعفر ابن عقيل ومحمد بن مسلم بن عقيل.
وأصابت الحسين المثنّى ابن الإمام الحسن السّبط (عليه السّلام) ثمانية عشر جراحة وقُطعت يده اليمنى ولَم يستشهد.
وخرج أبو بكر ابن أمير المؤمنين (عليه السّلام) واسمه محمد قتله زحر بن بدر النخعي.
وخرج عبد الله بن عقيل فما زال يضرب فيهم حتّى اُثخن بالجراح وسقط إلى الأرض، فجاء إليه عثمان بن خالد التميمي فقتله.
القاسم وأخوه
وخرج أبو بكر بن الحسن بن أمير المؤمنين (ع)، وهو عبد الله الأكبر، واُمّه اُمّ ولد يقال لها رملة، فقاتل حتّى قُتل.
وخرج من بعده أخوه لاُمّه وأبيه القاسم، وهو غلام لَم يبلغ الحلم، فلمّا نظر إليه الحسين (عليه السّلام) اعتنقه وبكى ثمّ أذن له، فبرز كأنّ وجهه شقّة قمر وبيده السّيف وعليه قميص وإزار وفي رجلَيه نعلان، فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله اليسرى ـ وأنف ابن النّبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يحتفي في الميدان ـ فوقف يشدّ شسع نعله وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله غير مكترث بالجمع ولا مبال بالاُلوف.
وبينا هو على هذا إذ شدّ عليه عمرو بن سعد بن نُفيل الأزدي، وضرب رأسه بالسّيف، فوقع الغلام لوجهه فقال: يا عمّاه! فأتاه الحسين كالليث الغضبان، فضرب عمراً بالسّيف فاتّقاه بالسّاعد فأطنّها من المرفق، فصاح صيحةً عظيمةً سمعها العسكر، فحملت خيل ابن سعد لتستنقذه، فاستقبلته بصدرها ووطأته بحوافرها فمات.
وانجلت الغبرة وإذا الحسين (ع) قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه. والحسين (ع) يقول: «بُعداً لقوم قتلوك! خصمهم يوم القيامة جدّك».
ثمّ قال: «عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثمّ لا ينفعك، صوتٌ والله كثر واتره وقلَّ ناصره». ثمّ احتمله وكان صدره على صدر الحسين (ع) ورجلاه يخطّان في الأرض، فألقاه مع علي الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته، ورفع طرفه إلى السّماء وقال: «اللهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً».
إخوة العبّاس (ع)
ولمّا رأى العبّاس (عليه السّلام) كثرة القتلى من أهله قال لإخوته من اُمّه وأبيه، عبد الله وعثمان وجعفر: تقدّموا يا بني اُمّي حتّى أراكم نصحتم لله ولرسوله. والتفت إلى عبد الله وكان أكبر من عثمان وجعفر وقال: تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك. فقاتلوا بين يدَي أبي الفضل حتّى قُتلوا بأجمعهم.
شهادة العبّاس (ع)
ولَم يستطع العبّاس صبراً على البقاء بعد أنْ فُني صحبُه وأهلُ بيته، ويرى حُجّة الوقت مكثوراً قد انقطع عنه المدد، وملأ مسامعه عويل النّساء وصراخ الأطفال من العطش، فطلب من أخيه الرخصة، ولمّا كان العبّاس (ع) أنفس الذخائر عند السّبط الشهيد (ع)؛ لأنّ الأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه، والحرم مطمئنّة بوجوده مهما تنظر اللواء مرفوعاً، فلَم تسمح نفس أبي الضيم القدسيّة بمفارقته فقال له: «يا أخي أنت صاحب لوائي».
قال العبّاس: قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين واُريد أنْ آخذ ثأري منهم. فأمره الحسين (ع) أنْ يطلب الماء للأطفال، فذهب العبّاس إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلَم ينفع. فرجع إلى أخيه يخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش فلَم تتطامن نفسه على هذا الحال، وثارت به الحميّة الهاشميّة.
ثمّ إنّه ركب جواده وأخذ القربة، فأحاط به أربعة آلاف ورموه بالنّبال فلَم ترعه كثرتهم، وأخذ يطرد اُولئك الجماهير وحده ولواء الحمد يرفّ على رأسه، ولَم يشعر القوم أهو العبّاس يجدل الأبطال أم أنّ الوصي يزأر في الميدان؟! فلم تثبت له الرجال، ونزل إلى الفرات مطمئنّاً غير مبال بذلك الجمع.
ولمّا اغترف من الماء ليشرب، تذكّر عطش الحسين ومَن معه، فرمى الماء وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني
وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون
وتشربين بارد المعين
تالله ما هذا فعال ديني
ثمّ ملأ القربة وركب جواده وتوجّه نحو المخيّم، فقُطع عليه الطريق، وجعل يضرب حتّى أكثر القتل فيهم وكشفهم عن الطريق وهو يقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا
حتّى اُوارى في المصاليت لقى
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقى
إني أنا العبّاس أغدو بالسقا
ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى
فكمِن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي، فضربه على يمينه فبرأها فقال (عليه السّلام):
والله إنْ قطعتُمُ يميني
إني أُحامي ابداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
نجل النبيِّ الطاهر الأمين
فلَم يعبأ بيمينه بعد أنْ كان همّه إيصال الماء إلى أطفال الحسين (ع) وعياله، ولكن حكيم بن الطفيل كمِن له من وراء نخلة فلمّا مرّ به ضربه على شماله فقطعها وتكاثروا عليه، وأتته السّهام كالمطر، فأصاب القربة سهم واُريق ماؤها، وسهم أصاب صدره، وضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته.
وسقط على الأرض ينادي: عليك منّي السّلام أبا عبد الله. فأتاه الحسين (ع) ورآه مقطوع اليمين واليسار، انحنى عليه وبكى بكاء عاليا وقال: «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي».
فبعد أنيهة فاضت روح أبي الفضل في حجر أبي عبد الله الحسين (ع).
ورجع الحسين (ع) إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكُمّه، وقد تدافعت الرجال على مخيّمه فنادى: «أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟ أما من طالب حقّ ينصرنا؟ أما من خائف من النّار فيذبّ عنّا؟» فأتته سكينة وسألته عن عمّها، فأخبرها بقتله. وسمعته زينب فصاحت: وآ أخاه! وآ عبّاساه! وآ ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسين معهنّ وقال: «وآ ضيعتنا بعدك!»
مقتل الامام الحسين- القسم الاخير.. سيد الشهداء في الميدان
يتبع...