تأتي أهمية هذه الزيارة من عدة اعتبارات، أهمها:
- جاءت الزيارة في اليوم الثاني لإصدار المحكمة الجنائية الدولية قراراً بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتعلن للعالم أن الصين تقف إلى جانبه، وأنه شخصية استثنائية تحظى بالاحترام والتقدير من قبل الرئيس الصيني، الذي أصر على التأكيد على عمق العلاقة الشخصية بينهما.
- الحرب الأوكرانية والاتهامات الغربية للصين بالوقوف خلف روسيا ودعمها ببعض التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج.
- أنها أول زيارة للرئيس الصيني بعد إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثالثة، وهو ما يعكس أهمية العلاقة بين البلدين. وكان الرئيس شي قد زار موسكو قبل 10 سنوات حين تم انتخابه رئيساً أيضاً.
- طرح الصين مبادرة لحل الأزمة في أوكرانيا، إذ عرضتها على موسكو وحظيت بقبولها ودعمها، وجاءت الزيارة ربما لمناقشتها بشكل أعمق.
- ازدياد التهديدات الغربية لبكين، والسعي الأميركي لنسج تحالفات محيطة بالصين لمحاصرتها وجرها إلى سباق تسلح لطالما حاولت بكين تلافيه.
- نجاح بكين في تحقيق الاتفاق بين السعودية وإيران، وعدم الارتياح الأميركي لأدوار الوساطة التي تسعى بكين لأدائها.
ولعل ما يميز الصين عن غيرها من الدول، ويجعلها مؤهلة لأداء دور الوسيط بين الطرفين الروسي والأوكراني، هو موقفها المحايد من هذه الحرب، إذ أدت، ومنذ بداية الحرب في أوكرانيا، دور "الموازن الدولي"، فاستطاعت من خلال موقفها المحايد من الحرب تجنيب العالم ويلات حرب عالمية ثالثة.
لقد اتسم الموقف الصيني بـ"الحياد الإيجابي" الناتج من مبادئ السياسة الخارجية الصينية وثوابتها التي لم تتغير؛ فبكين لم تؤيد الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها في الوقت ذاته أعلنت تفهمها للمخاوف الروسية التي تتعلق بأمنها القومي.
هذا الموقف لقي قبولاً وتفهماً روسياً، لكنه قوبل باستياء غربي وصل حد التهديدات المباشرة لبكين ومطالبتها بالوقوف ضد روسيا وبشكل صريح.
بكين من جهتها أعلنت قبل أيام مبادرة لحل الأزمة في أوكرانيا، وهي جزء من مجموعة من المبادرات التي قدمتها الصين وتنوي تقديمها في المستقبل، لإيجاد حل للعديد من المشكلات الدولية في العالم.
إنَّ الصين، وبعدما انتهت من ترتيب أوضاعها الداخلية، وخصوصاً إغلاق ملف "كوفيد 19"، وعودة الحياة إلى طبيعتها في البلاد، وبدء عجلة الإنتاج بالدوران، مروراً بانعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وانتهاء بانتخاب الرئيس شي جين بينغ لولاية رئاسية ثالثة، انطلقت للانخراط بشكل فاعل في الترويج لنفسها كراعٍ للسلام في العالم.
ترى بكين أن قوتها الناعمة ستكون طريقها للوصول إلى قمة الهرم الدولي، على عكس الولايات المتحدة التي سعت، ومنذ الحرب العالمية الثانية، لتكريس هيمنتها بالقوة، بل القوة المفرطة لو اقتضى الأمر ذلك، فاستخدمت السلاح النووي ضد اليابان لتعطي للعالم درساً مفاده أنها لن تتردد أبداً في ارتكاب أفظع الجرائم ثمناً لبقائها في قمة الهرم الدولي.
لقد فضّلت بكين تكريس النظرية الاعتمادية في العلاقات الدولية، التي تعني أن كل دولة بحاجة إلى الدول الأخرى، وأن هذا الدور هو دور تكاملي يحقق المنفعة للجميع والفوز المشترك.
هذه الرؤية ستعني بالضرورة تراجع النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، وهي النظرية التي كرستها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي تؤمن بالقوة؛ القوة وحدها ولا شيء سواها، سبيلاً لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
من هذه الرؤية، انطلقت بكين لأداء دور "راعي السلام الدولي"، لتحقق نجاحاً كبيراً عبر الاتفاق الذي تحقق بين إيران والمملكة العربية السعودية. هذا الاتفاق مهم جداً بالنسبة إلى بكين، إذ إنه يعزز قوتها الناعمة التي تحدثنا عنها، ويمكّنها من دحض الاتهامات الغربية لها باضطهاد المسلمين الإيغور في الصين، فكيف لدولة تضطهد المسلمين (كما يدعي الغرب)، أن تسعى لتحقيق التقارب بين أكبر دولتين إسلاميتين في العالم، بما تمثّله كل منهما كمرجعية مذهبية معينة؟
هذا الاتفاق شجّع بكين على المضي قدماً لحل أكبر وأهم وأخطر ملف بالنسبة إلى دول العالم جميعاً، وهو الحرب في أوكرانيا.
إن الحرب في أوكرانيا أصبحت حرباً معولمة (عالمية التأثير)، بمعنى أن ارتداداتها وصلت إلى جميع الدول، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، إذ فاق تأثيرها تأثيرات الحرب العالمية الثانية.
خلال هذه الحرب، بقي الكثير من دول العالم بعيداً عن تأثيراتها، لأنها لم تكن طرفاً فيها أو نتيجة لبعدها الجغرافي عن الدول المتحاربة، لكن الاقتصاد الدولي اليوم أصبح أكثر تشابكاً وتداخلاً، إذ يمكننا تشبيهه بالأواني المستطرقة، فما يحدث في دولة على الصعيد الاقتصادي ستنتقل تأثيراته إلى باقي دول العالم.
ومن هذه الزاوية، فقد أصبح إيجاد حل لهذه الحرب مطلباً عاماً لجميع الدول، وتحديداً الدول الأوربية، فهي الأكثر تضرراً، واقتصاداتها باتت مهددة، وخصوصاً في ظل سباق التسلح الذي انتهجته حكوماتها لدعم أوكرانيا وتزويدها بالأسلحة اللازمة لصمودها في وجه الجيش الروسي.
لقد استنفدت هذه الدول مخزوناتها من الأسلحة، ووصلت إلى حد استنفاد مخزوناتها من الأسلحة الإستراتيجية الضرورية بالنسبة إليها للدفاع عن نفسها. لذا، إن المبادرة الصينية تحظى بدعم دولي بكل تأكيد، رغم الرفض المبدئي لها من قبل بعض الدول، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
الرفض الأميركي نابع من تخوف الولايات المتحدة من نجاح بكين في مسعاها، وهو ما سيشكل صورة ذهنية عنها كدولة راعية للسلام وساعية من أجل تحقيقه. وبالتالي، ستصبح هناك مقارنة على المستوى الدولي بين دور الصين ودور الولايات المتحدة، وهو ما لا تريده أميركا.
ويمكننا القول إنّ زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو ركزت على 4 محاور:
- المحور الاقتصادي: يعدّ الاقتصاد أولوية الأولويات بالنسبة إلى بكين، وتشكل موسكو شريكاً اقتصادياً مهماً لها، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 185 مليار دولار، بزيادة سنوية تتجاوز 33%.
ويشكل النفط والغاز نسبة كبيرة من حجم هذا التبادل، إذ تشير الأرقام إلى أن موسكو أصبحت المصدر الأول للنفط إلى الصين، متجاوزة المملكة العربية السعودية.
- التعاون العسكري بين البلدين: وضعت الصين خطة لتطوير جيشها واستكمال بنائه خلال السنوات الخمس القادمة، لتكون قادرة عام 2027 (الذكرى المئوية لتأسيس جيش التحرير الشعبي الصيني) على خوض المعارك الداخلية والخارجية. تعد روسيا دولة منتجة للأسلحة المتطورة، ويمكنها مساعدة بكين في ذلك، في مقابل قيام الصين بتزويدها ببعض الصناعات التكنولوجية الدقيقة التي تحتاجها، مثل الرقائق الإلكترونية وسواها.
- ملف المصانع البيولوجية الأميركية والإسرائيلية في أوكرانيا، إذ تشير التقارير إلى وجود 33 مصنعاً أميركياً ومصنعاً إسرائيلياً. هذه المعامل قد تكون مسؤولة عن تصنيع فيروس "كوفيد 19" ونقله إلى الصين.
- التنسيق السياسي بين البلدين اللذين تربطهما علاقات سياسية متطورة: أدى البعد الشخصي دوراً كبيراً في تعزيزه، إذ يرتبط رئيسا البلدين بصداقة طويلة ومتينة عبر عنها الرئيس الصيني في أكثر من مناسبة، مشيراً إلى أن هذا اللقاء هو اللقاء الأربعون بينهما، وأنهما التقيا 8 مرات خلال السنوات العشر الأخيرة، مع الإشارة إلى أن الرئيس بوتين كان أول رئيس أجنبي يزور الصين بعد "كوفيد 19"، إذ شارك في افتتاح دورة الألعاب الشتوية التي أقيمت في بكين قبيل الحرب الأوكرانية بعدة أيام.
ويبدو الرئيس الروسي منفتحاً على المبادرة الصينية وداعماً لها، إذ لم تتطرق مطلقاً إلى فكرة الانسحاب الروسي من الأراضي الأوكرانية، بل دعت إلى وقف إطلاق النار والشروع بالمفاوضات بين الجانبين.
هذا يعني من الناحية المبدئية تبريداً للصراع قد يصل حد التجميد، على غرار الصراع بين الكوريتين أو الحرب في قبرص، بمعنى تثبيت الوضع القائم، وهو ما يشكل هزيمة كبيرة لأوكرانيا، وبالتالي سيكون من الصعب تقبل ذلك.
لاشك في أن تلك الوساطة متشابكة ومعقدة، لكن ما يعزز فرص نجاحها هو الإدراك الصيني لأهمية إشراك الفاعلين الدوليين الحقيقيين في هذه الأزمة (الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا).
إن نجاح المبادرة الصينية سيحدث شرخاً في التحالف الغربي ضد موسكو، بل إن هذا الشرخ قد يحدث قبل ذلك بكثير بين دول مع هذه المبادرة ودول ضدها.
ويبقى السؤال المهم والأكثر تعقيداً: ماذا لو فشلت المبادرة الصينية في إيجاد حل للأزمة في أوكرانيا؟ هل تغير بكين موقفها من الحرب حينها؟ وماذا لو استمر الضغط الغربي على الصين والاستفزاز المستمر لها؟ وهل هناك احتمال للمساومة على وقف الدعم الصيني لموسكو، في مقابل تخلي الولايات المتحدة عن دعمها لتايوان، على غرار ما حدث في سبعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر، حين تم نقل مقعد الصين في الأمم المتحدة إلى الصين الشعبية بدلاً من تايوان؟
كل شيء في السياسة قابل للحدوث والتبدل، فالمصالح تعلو ولا يُعلى عليها. أما المبادئ، فلا قيمة لها ولا معنى، ويبقى الشيء الوحيد غير المسموح به بالنسبة إلى بكين هو هزيمة موسكو في هذه الحرب، لأنَّ ذلك يعني بالضرورة الانتقال الغربي لمواجهة الصين، وهو أمر مستبعد.