البث المباشر

معرفة النفس الانسانية -۳

السبت 2 فبراير 2019 - 15:19 بتوقيت طهران

الحلقة 221

في مجال فهم النفس الانسانية، قدم علماء المسلمين طائفة من العناصر العامة تمثل الرؤية الخاصة في هذا السياق، وهي رؤية تختلف تماماً عن الرؤية الغربية المادية وان النظرة الاسلامية هي نظرة جامعة كاملة متوازنة تقوم على‌ تقدير الجوانب المعنوية والجانب المادي في الانسان، وتهذيب الاخلاق انما يقوم على معرفة عيوب النفس التي ينبغي تجنبها، والنفس ليست جسماً وانما كالعرض بالقياس الى الجوهر وبها يحيى البدن الذي هو مظهر كمالاتها في هذا العالم المحسوس، والغاية من السلوك الانساني في الرؤية الاسلامية معرفة الباري تبارك وتعالى وانتهاج رسالته في الحياة في الايمان والعمل الصالح، ولا يستطيع المرء ان يفهم حقيقة النفس ما لم يستمسك بالخيط الذي كشف عنه الدين وما لم يؤمن ان الدين هو العامل الذي رفع الانسان من الضعف البشري الى افاق السمو واعتلى به من البهيمية المادية الى الروحانية والسمو، والواقع ان النهج الالهي في الانسان والنفس هو المصباح المنير الذي يضيء طريق الانسانية متفرداً من بين كل المناهج الارضية الاخرى.
الباحث النفسي كارل يونج كشف عن الخطر الذي يواجه النفس الانسانية في هذا العصر من التمزق والمرض، يقول في كتابه النفس غير المكتشفة استشارني خلال الاعوام الثلاثين الماضية اشخاص من مختلف شعوب العالم المتحضرة وعالجت مئات من المرضى فلم اجد مشكلة واحدة من مشاكل اولئك الذين بلغوا منتصف العمر لا ترجع في اساسها الى افتقارهم الى الايمان وخروجهم عن تعاليم الدين، ويضيف يونج يصح القول بأن كل واحد من هؤلاء قد وقع فريسة المرض لانه قد حرم سكينة النفس التي يولدها الدين ولم يبرأ واحد من هؤلاء المرضى الا عندما استعاد ايمانه واستعان بتعاليم الدين في مواجهة الحياة.
ان سر ازمة الانسان كما يرى يونج هو انه لم يستكشف ذاته وتحرر الانسان من التحديات التي تواجهه انما يرجع الى فهم النفس والتغلغل في اعماقها والوصول الى معرفة كافية للانسان والى اقامة تقويم له سليم لدى الانسان الذي يسحقه الان التطور المادي ويعصف بقلاعه، يقول ان النظريات العلمية لا نفع فيها فبقدر ما تكون النظرية الشاملة تعجز عن الايمان بالواقع الخاص للذات وكل نظرية تعتمد على التجربة هي بالضرورة نظرية احصائية فهي لا تقدم الا متوسطاً حسابياً. ويقرر هذا الباحث النفسي المعروف ان النفس الانساني كائن مستقل هو نقيض للمادة والجسم وعنه تصدر ظواهر الوعي والشعور والارادة وله وجوده القائم بذاته وقوانينه الخاصة المميزة، ثم يقف يونج على مفترق الطريق ليرى المنهج الصالح لدراسة النفس الانسانية، فهو يرى انه ليس مذهب زميله وصديق شبابه فرويد وليس مذهب الفكر الغربي وليس مذهب الماركسية وكان لابد ان يصل الباحث المتبصر الى المنهج الاسلامي الاصيل في معرفة حقيقة النفس، اما الدعوة الى الوجودية او منهج الاستبطان الذاتي او منهج البوذية او غيرها من الدعوات المادية الخالصة او الروحية الخالصة في الشرق ام من الغرب فأنها لم تؤدي الى فهم حقيقة النفس لانها غالباً ما تحجب ذلك الترابط الاصيل بين الروح والمادة وبين النفس والجسم كما يتجلى في المنهج الاسلامي المنقذ.
ولا ريب ان مفهوم الاسلام عن النفس الانسانية اساسه الاعتراف بحقوق الانسان وميوله وعواطفه، اما ما يعرف اليوم بأسم علم النفس فهو مجرد نظريات وفروض وليس حقائق ثابتة، وهذه النظريات قد قامت على تجارب خاصة بالباحثين ومنهم من له ظروفه الخاصة العقلية والاجتماعية من اضطراب عقلي او اضطهاد، ومن اللائق من الوجهة الموضوعية الحذر من اهواء الباحثين التي لا ترتقي الى مستوى القيم الثابتة التي لا تتغير بتغير الظروف والازمان والبيئات. في هذا الصدد نتعرف على طرف مما كتبه جون كارل فلوجل في كتابه الانسان والاخلاق والمجتمع كتب فلوجل يقول، عجزت العلوم الحديثة عن الوصول الى الحقيقة وموقف علم النفس الان اشبه بموقف الطبيب يشاهد مريضاً بين الموت والحياة دون ان يستطيع تشخيص الداء عن طريق الحدس والتخمين وان مكتشفات التحليل النفسي ونظرياته في ميدان الغريزة الجنسية قد صدمت شعور كثير من الناس فهم يشعرون ان علماء النفس حين يحاولون فهم البواعث التي ترتكز عليها القيم الخلقية والدينية قد يحطمون هذه القيم نفسها بل لعلهم يعمدون فعلاً على تحطيمها، وحذر فلوجل من نتائج هذه الابحاث وخاصة ما يتعارض منها مع النظم والعقائد ويقول ربما كان علماء النفس هم انفسهم من المصابين بتلك العقد التي يحلو لهم الحديث عنها ومنها جاءت معظم احكامهم مشوبة بالهوى قائمة على معرفة مبتثرة.
اجل، من كل هذه المراجعات في موقف الاديان والفلسفات والمذاهب نجد ان الرؤية الاسلامية هي اعمق الرؤى واوسعها واكثرها واقعية واصدقها تعرفاً الى الفطرة واقربها الى العلم والعقل.
الانسان في نظر الاسلام هو كائن كين لاهو بالملاك ولا هو بالشيطان له مطامح تشده الى الارض وله اشواق تربطه بالسماء، والاسلام من اجل اقامة التوازن بين نوازع الانسان واشواقه يرسم لها طريقاً وسطاً ويعمد الى ايجاد الموائمة في نفس الفرد بين قواه المختلفة، مما يفضي الى سلامة الكيان البشري والى تناسق رائع بين الفرد والجماعة ‌فهو يحفظه دون ان يجمد بالرهبانية ودون ان يتمزق بالاباحية حتى يستطيع ان يكون قادراً على اداء رسالته وتحمل مسؤوليته. الاسلام يحقق للانسان رغبات جسده وعقله وروحه وان اعتراف الاسلام بالروح البشرية وبحق ممارستها مع وضع الضوابط والحدود لها انما يحول دون ما يسمى بالكبت والتمزق والضياع، هذا الدين يقوي الامل الانساني برحمة الباري تعالى، فليس في الاسلام اي ملمح لليأس او انهزامية او ضعف او تشاؤم وكذلك فأن هذا الاتجاه الجامع الوسط يحول دون طوابع الوثنية او عبادة الشهوة، الى جوار ذلك كله يوجه نحو قيم التضحية والتقوى والبذل والبناء، حياكم الله شكراً لحسن استماعكم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة