النفس الانسانية مؤهلة في الخلقة لطريق الخير وطريق الشر، وارادتها الحرة هي التي تتجه بها الى احد الطريقين. من اجل هذا جاء الدين الحق عن طريق الوحي الالهي ليهدي الانسان الى خير السبل واهداها وليحذره من الطريق المنحرف، وللنفس اثارها في الجسم نتيجة الارتباط الوثيق بينهما فأن ما يصيب النفس من الشك او الملل او القلق او الخوف له اثره في الجسم والاسلام يدعو الانسان الى ان يفهم ذاته ويفهم الكون وعالم الغيب الذي صدر منه الكون بمنطلق رسالة الدين، اما فكرة اكتشاف الفرد لنفسه بغير معين او دليل او علم اصيل فأنها وسيلة لتدميره، وقد هدى الدين الحق الانسان الى مكانه في الكون والى رسالته ومسؤوليته وامانته، وعلمه فهم العلاقة بين العوالم الثلاثة، عالم الطبيعة وعالم الانسان وعالم الغيب ودعاه الى الحذر من ان تبهره الكشوف الطبيعية. فأن في نفسه ما هو ادق من ذلك صنعاً، «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» ولا يستطيع الانسان ان يفهم حقيقة النفس الا اذا التمس الخيط الذي كشف عنه الدين وهو انه مخلوق لغاية ورسالة ولم يخلق عبثاً او سدى وان الدين هو العامل الذي رفع الانسان من ضعف البشر الى سمو الانسان وارتقى به من الحيوانية المتصلة بتركيبه الجسماني الى الروحانية المتصلة بتركيبه المعنوي.
ان النفس الانسانية فيما قدم الدين هي واضحة المعالم والاتجاه تمام الوضوح، لو ان الانسان المعاصر التمس هذا العلم، اما العلم التجريبي فأنه ما يزال قاصراً عن فهم الانسان وسيظل قاصراً الا في المجال المادي فقط، لان فهم النفس الانسانية لا يوصل اليه بالادوات الموجودة الان في ايدي العلماء وهي ادوات العقل والتجربة والعمل، نقرأ هنا للدكتور الكسس كارل قوله ان اغلب الاسئلة التي يلقيها على انفسهم اولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب لان هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنة ما تزال غير معروفة، فنحن لا نعرف الاجابة عن اسئلة كثيرة مثل، كيف تتحد جزئيات المواد الكيمياوية التي تكون المركب والاعضاء المكونة للخلية؟ كيف تتقرر الجينيس ناقلات الوراثة الموجودة في نواة البويضة؟ كيف تنتظم الخلايا في جماعات من تلقاء نفسها، مثل الانسجة والاعضاء ثم ما هي طبيعة تكويننا النفسي والفاسيولوجي؟ نحن نعرف اننا مركب من الانسجة والاعضاء والسوائل والشعور ولكن العلاقات بين الشعور والمخ ما تزال لغزاً، اننا ما نزال بحاجة الى معلومات كاملة تقريباً عن فاسيولوجية الخلايا العصبية اي الى اي مدى تؤثر الارادة في الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الاعضاء؟ على اي وجه تستطيع الخصائص العضوية والعقلية التي يرثها كل فرد ان تتغير بواسطة الحياة والمواد الكيمياوية الموجودة في الطعام والمناخ؟ ان هذا التعقيد في تركيب الكائن الانساني في وظائفه واوجه نشاطه هو الذي يتسق مع ضخامة وتشعب وظيفته الاساسية في خلافة هذه الارض تعقيداً ما يزال مستعصياً على العقل البشري لانه فوقه واكبر منه.
اجل، ان الكسس كارل يرد دراسة الانسان المعقدة الى انه انسان كائن له عالمه الفرد الخاص الذي لا مثيل له في سائر افراده وله عالم جامع للخصائص البشرية المشتركة، يقول ان الفردية جوهرية في الانسان، انها ليست مجرد جانب معين من الجسم اذ انها تنفذ الى كل كياننا وهي تجعل الذات حدثاً فريداً في تاريخ العالم، انها تطبع الجسم والشعور كما تطبع كل مركب في الكل بطابعها الخاص وان ظلت غير منظورة، ومن المحتمل انه لم يوجد فردان بين ملايين البشر الذين استوطنوا الارض قد كان تركيبهم الكيمياوي متماثلاً، وترتبط شخصية الانسجة التي تدخل في تركيب الخلايا بطريقة ما تزال غير معروفة حتى الآن، ومن هنا فأن فرديتنا تتأصل جذورها في اعماق ذاتنا، اننا عاجزون عن اكتشاف الصفات الجوهرية لشخص بعينه فضلاً عن عجزنا لاكتشاف امكانياته.
ان هذه الحقائق تقتضي منهجاً للحياة الانسانية يرعى تلك الاعتبارات كلها، يرعى تفرد الانسان في طبيعته وتركيبه وتفرده في وظيفته وغاية وجوده، وتفرده في مآله ومصيره، كما يرعى تعقده الشديد وتنوع اوجه نشاطه ثم يرعى فرديته هذه مع حياته الجماعية، وبعد هذا كله تضمن له ان يزاول نشاطه كله وفق طاقاته كلها بحيث لا يسحق ولا يكبت كما لا يسرف ولا يفرط وبحيث لا يدع طاقة تطغى على طاقة ولا وظيفة تطغى على وظيفة، ثم يسمح لكل فرد بمزاولة فرديته الاصيلة مع كونه عضواً حياً في الجماعة الحية، من هنا فالمناهج التي اتخذها البشر لا نفسهم لن تستطع وضع شيء مناسب لانها لم تصل بعد الى اغوار حقائق هذا الكائن، والمنهج الوحيد لهذه الاعتبارات كلها هو المنهج الذي وضعه للانسان خالقه العليم في تكوينه وفطرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، المنهج الذي يحقق للانسان غاية وجوده ويحقق التوازن في اوجه نشاطه ويحقق فرديته وجماعيته.
والخلل الذي مني به العلم انما جاء من اعتقاده بقدراته على ان يكتشف الانسان في حين لم يكن ذلك بمقدوره، وقد وجد المنهج الخاص بالانسان والنفس الانسانية كاملاً وعميقاً متدفقاً بالحياة منذ جاء به الاسلام واخيراً فأن المنهج الالهي في الانسان والنفس هو الامل الوحيد الان للبشرية كلها بعد ان تساقطت المذاهب والنظريات كما تتساقط اوراق الخريف.
*******