البث المباشر

مركزية الأصالة في الفكر الاسلامي -۱

السبت 2 فبراير 2019 - 10:01 بتوقيت طهران

الحلقة 217

في لقاء اليوم نمضي في قضايا معاصرة تهم الفكر والثقافة واصالة الامة من اجل الكشف عن جوانب واضاءة ما يمكن اضاءته، اجل ان اخطر التحديات التي يواجهها الفكر الاسلامي هي فقدان الاصالة في مواجهة دعوات عديدة هي المعاصرة والتقدم والتفتح والحداثة، ان هذه الدعوات ذات الاسماء البراقة لا يعجز الفكر الاسلامي عن التعامل معها وفق طريقته الخاصة التي تقوم على اساس عطفها على اصله الاصيل وميزاته وسماته الواقعية الصحيحة، ذلك ان هناك اخطاراً تعترض الاصالة دائماً في هذا العصر بالذات وتختفي وراء اساليب براقة اهمها التغريب والتبعية الذائبة في بوتقة التطور المطلق، وهي كما هو واضح بوتقة غربية تريد ان لا تترك قيمة ثابتة على الاطلاق.
ولا ريب ان المنطلق الى الحركة لابد ان يكون من نقطة مركزية ثابتة تظل كالمنار المضيء في ظلمات الليل تهدينا الى الطريق وتكون نقطة البدء كما هي نقطة نهاية الجولة. ان الاصالة هي التي تدعونا الى التماس قيمنا الاساسية في مجال الحركة صيانة للكيان من الذوبان والمحافظة على الذاتية وتحقيقاً للنفع والاستفادة من التجارب الانسانية من دون ان نفقد الهوية، هذا يعني تكامل الحاضر مرتبطاً بالماضي ومتصلاً بالمستقبل، الاتجاه نحو الاصالة لا يعني الجمود ولا تقليد الماضي وانما هي ارتباط بالخطوط الممتدة بين ماضي هذه الامة الى مستقبلها مروراً بحاضرها، انه الارتباط بالمنابع الاصيلة الثرة الصافية التي انطلق منها الفكر الاسلامي نقياً غاية النقاء قبل ان يختلط بأوشاب الفلسفات والفكر البشري وذلك ايماناً بأنه لا حركة الى الامام في التقدم بمعزل عن الضوء الممتد على الطريق من الاسلام نفسه.
مفهوم الاصالة في الفكر الاسلامي يختلف عنه في الفكر الغربي ذلك الفكر الذي ساقته نظرية التطور الدارونية سوقاً الى الايمان بالتغير الكامل فلم تعد تهمه من قضية الاصالة الا ظلالها وهو يركز تركيزاً شديداً على التجدد والتحول دون نقطة عودة الى شيء ما، فلا يرى ان الاصالة تمثل اكثر من البعد التاريخي للتحول ولذلك فأن نظرته الى الماضي يختلط بها كثير من الاحساس بالاستغناء او محاولة التمرد على القديم او الاحساس بأنه ليس اكثر من مرحلة عبرت وغيرت وذلك جرياً مع التاريخ الطويل الذي واجه به الغرب ماضيه اللاهوتي وتراثه المتصل بالدين والزهادة والرهبانية، هذا المعنى الذي تنتقضه كل المذاهب الحديثة من نفسية واقتصادية ووجودية واقتصادية. من هنا كان احساس الفكر الغربي بالاصالة ضعيفاً خافتاً لانه فصل تماماً بين فكره الحديث وبين ذلك التراث واقام عازلاً حقيقياً في التحول الى الفلسفة المادية بعد مرحلتي الدين والفلسفة المثالية التين ينظر اليهما على انهما من القديم المتخلف. لقد فصل الفكر الغربي بينه وبين هذا التراث القريب وارتد مرة اخرى الى الارتباط بالوثنية الغربية واحياءها في مذاهب وفلسفات جديدة، تقوم نظرياتها على الاساطير اليونانية الخرافية فقد اتخذ من هذه الاساطير الخيالية البائدة اصولاً لنظريات علم النفس والوجودية كما فعل فرويد وسارتر.
الاصالة في الرؤية الاسلامية هي دائماً اساس البناء والتجدد المنضبط بالاصول قد اعترف به الاسلام من خلال عنصر الاجتهاد، وهو وعلامة على الحركة واليقظة امتداداً من الاصالة وارتباطاً بالواقع الحاضر. الاصالة مستمعي الكريم اذن هي ذلك التراث النقي والميراث الحي الذي تشكل عليه الفكر الاسلامي من القرآن الكريم والسنة الصحيحة تفسيراً له وتطبيقاً، انها تجدد متصل يتجه نحو الكمال ويحسب القيم الاساسية ويحرسها وينميها ثم هي اي الاصالة مقاومة دائمة لدوافع الانحراف والتخلف معاً. ان الاصالة ترتبط بالتجدد في نفس الوقت الذي ترتبط فيه بمقاومة التبعية، والفكر الاسلامي حين ينفتح على المعاصرة لا ينسى ابداً قيمه وذاتيه التي لا تذوب او تنصهر في معرض النقل والاقتباس، الاصالة له تحد من المعاصرة والتجديد ولكنها تتعامل على تحرير الحركة من التبعية والتقليد.
بعض التيارات المشبوهة في تاريخ الاسلام القديم وتيارات التغريب في تاريخه الحديث كانت تحاول توزيع مجال المعاصرة بحيث تقضي على الاصالة او تذيب القيم الاصيلة للفكر الاسلامي بذريعة الاممية او تقطع ذلك الخيط لكي تضيع القافلة في صحراء الحياة، ولقد كان الاسلام في تاريخه كله قادراً على تحقيق الالتزام بالعصر والتجديد دون ان يفقد الاصالة او يقبل كل ما في العصر او يتجاوز اصوله الاساسية، ارضاءاً او تبريراً او تقبلاً لغير ما يتفق مع التوحيد والحق والعدل وانسانية الانسان.
الاصالة ليست تشبثاً بالماضي او تعصباً له وليست تقديساً للتاريخ بحوادثه واشخاصه جميعاً ولكنها ايمان بالقيم القرآنية الثابتة والحقائق الواقعية الباقية التي قام عليها الاسلام كله ومحافظة على كيان الامة في اصالة فكرها، واللافت للنظر حقاً ان الاخطار والتحديات التي واجهت الفكر الاسلامي كانت جميعها تحاول ان تقضي على مضمون الاصالة والارتباط بالجذور والاتصال بالمنابع في محاولة لتصوير العصر على انها نهضة منفصلة قائمة بحد ذاتها سواء في مجال الاداب والاجتماع. وفي طريق القضاء على الاصالة كانت الدعوة الى التساهل والتسامح وتحرير الفكر وهي دعوات حمل لواءها اتباع الفكر الوافد ولا تستهدف الا التسامح في الاصالة او التساهل في الحدود والضوابط او تحرير الفكر من اهم قواعده وهي الدين بمعنى الوحي والنبوة ورسالة السماء واخيراً فأن الدعوة‌ الى تغليب العصرية على الاصالة انما هي دعوة مسمومة وان القول بأن الاصالة هي التاريخ قول زائف مضلل، ذلك ان الاصالة في الفكر الاسلامي انما تمثل تلك الحصيلة الضخمة التي اقامها القرآن الكريم واحاديث النبي واهل بيته الاطهار (عليهم السلام) ونماها علماء الاسلام المرتبطون بالاصول الاصيلة، انها ليست تراثاً قديماً بل ميراث حي لم يتوقف عن الحياة لحظة واحدة في مقابلة المجتمعات والحضارات وسيظل قادراً على العطاء بسخاء.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة