البث المباشر

الأدب العربي والقيم الأخلاقية

الخميس 31 يناير 2019 - 17:28 بتوقيت طهران

الحلقة 164

من ابرز ما دعا اليه الاتجاه التغريبي الذي حمل لواءه المستشرقون وتلامذتهم من المتغربين هو تحرير الادب العربي من القيم الاخلاقية ودفعه الى تصوير الغرائز والاهواء في غير ما قيد باسم حرية الادب التي اطلق عليها الفن للفن.
هذا الاتجاه الغازي المجلوب من الحياة الغربية بدأ بثلاث ظواهر:
الظاهرة الاولى: هي الافاضة في الحديث عن حياة الشاعر بشار بن برد وابي نواس وغيرهما من شعراء الاباحة والمجون في العصر العباسي ونشر الجوانب الشاذة من احاديثهم واسمارهم على النحو الذي كتبه المتغرب طه حسين في كتاب حديث الاربعاء.
الظاهرة الثانية: ترجمة القصص الفرنسية الاباحية والكشف عن جوانب الصراع الحسي في العلاقات الشاذة‌ بين الرجل والمرأة وترجمة اشعار بدلر وغيره من شعراء الادب المكشوف.
وثالثة ظواهر: الغزو التغريبي التخريبي هو الدعوة الى حرية الادب والدفاع عنها وفق منهج علمي زائف بدعوى انه منطلق انساني اصيل، وقد اتسع نطاق هذه الدعوة وقامت من اجلها المناظرات والمحاضرات اضافة الى اغراق الاسواق بفيض ضخم من القصص الفرنسية المكشوفة التي جرت ترجمتها وتقديمها بأسعار زهيدة والقاءها بين ايدي الشباب واللافت للنظر ان كتابات هذه الفترة قد حفلت بظاهرة الاستخفاف بالقيم الاخلاقية والطعن بكل ما يتصل بالعقائد الدينية والسخرية بالفضائل والبطولات والجرأة على المقدسات بل ان ذلك قد جرى تطبيقه في بيئات مختلفة منها بيئة العلم الاساسية.
هذه الدعوة الى تحلل الادب العربي من القيم الاخلاقية لقيت معارضة شديدة بسبب معاكستها لسمات هذا الادب، وكشف الباحثون المنصفون ان حرية ابي نواس وبشار وغيرهما لم يكن مصدرها الادب العربي او مفاهيم الاسلام الاجتماعية وانما مصدرها تطلعاتهم الحسية واهدافهم العرقية التي ارادوا اذاعتها والجهر بها لهدم مقومات الادب العربي وبث الاباحية‌ التي تحرر منها الادب العربي بعد الاسلام.
اجل ان حرية الادب لا جدال في اخلاقها لكن الخطأ في قصرها على عاطفة‌ دون عاطفة ووجدان دون وجدان فضلاً عن عاطفة الهوى ودوافع الشك والمجون واكبر الخطأ ان يوحي المتغرب المنسلخ عن هويته مثل طه حسين بأن الاخلاق من مواضعات الحياة الجانبية كأنها وليدة الارادة العمياء التي نادى بها شوبن هاور فهي فرض مكررة او الزام اعمى يستوجب الحرب والانكار، والواقع ان القاعدة الاخلاقية ليست من قبيل المواضعات العمياء ولا الضوابط الجامدة وانما مثلها مثل الفن الانساني فهي وليدة التجربة العميقة التي يقع صاحبها على الصلات الحقيقية بين اشياء العالم.
وشواهد الصلة بين الفن والاخلاق شائعة معلومة في تواريخ الاداب والفنون ونراها ماثلة فيما يجري بيننا وبين شعر المتبني وشكسبير، على ان طه حسين حينما يصرف الادباء عن الاخلاق انما يقع في العيب الذي اخذهم به فهو يشتط في نفي القيود عن الشاعر ويقع هو فيه واي قيد اشد من الوقوف بالاخلاق والفضائل موقفاً بعيداً عن الفن فلا ينبغي للادب في نظره ان يقربها والا كان ادبه قديماً تنطبق عليه علل الكذب وادواء التصنع وتنتفي عنه سمات العصرية او الادب الحديث. خلاصة القول هو ان دعوى الاختلاف بين الفن والدين او الاخلاق نشأت بأتباع نظرية الفن للفن ومرد الاختلاف المزعوم الى اعتبار الفن نوعاً من التعبير لا اكثر ولا اقل، فلا عبرة والحالة هذه للموضوع ذاته وانما العبرة لمقتضيات التعبير، فالفنان لا قيد عليه في تصوير ما يشاء من المشاعر والاحاسيس سواء اتفقت هذه المشاعر والاحاسيس ومواضعات الجماعة واعراف الناس ام خرجت عليها، فالفن لا يخضع لغير قانون التعبير، ومن هنا ايضاً نشأ التضارب وسار عليه طه حسين في قولته خسرت الاخلاق وربح الفن، وهذا موقف يوحي به ظاهر هذا الاتجاه وعنه شاع هذا الخطأ حتى اصبح تبريراً لكل تبذل مقصود وغداً حجة يسوقها انصاف الفنانين حين يريدون ان يضفوا ثوباً من المشروعية الزائفة على انحرافهم وتبذلهم.
والحق ان محاكمته مثل هذه النظرية الى المفاهيم العلمية انما هو من قبيل تحصيل الحاصل ذلك ان الدعاة الى هذه النظرية وهم قد طبقوها فعلاً في كتاباتهم انما كانوا يستهدفون غايات بعيدة ويستبطنون اهداف مبيتة، ومن هنا لم يكن انتسابهم الى قواعد العلم والفن الا محاولة للحذاع وتضليل البسطاء وكان محاولة لتحقيق جوهم الاجتماعي الخاص الذي كانوا يعيشونه فعلاً متحررين من ضوابط القيم والدين، ولم يكن من المعقول ان يمارسوا هذه الحرية المنفلتة ثم يقفوا من الادب موقفاً يخالف ما يعتقدون وما يمارسون ذلك ان هؤلاء المتغربين المنسلخين كانوا قد قرأوا عن بلزاك وجان جاك روسو واسكندر ليماس وما كانت تحويه حياتهم الخاصة من فساد ونزق وانحراف، وكانوا يتطلعون ان يكونوا امثالهم وعلى شاكلتهم، وشاعت بين الادباء في هذه الفترة دعوة تقول تجرية الادب وحق الادباء في مقارفة كل فنون الحياة، ليتمكنوا من خلال التجربة من الحكم على ما يجدونه في الكتب والقصص ومن هنا كانت تلك الدعوة الى اخلاقية الادب مظهراً واضحاً صريحاً في ادب الادباء وحياتهم في هذه الفترة.
ان الذين يسمون انفسهم انصار التجديد يؤمنون بالغرب كله ويريدون ان يحملوا الناس على طريقتهم هذه حتى لو خالفت الاسلام في اكثرها وانصار التجديد يضيقون ذرعاً بالقيود الاخلاقية التي جعلها الدين لتنظيم حياة الناس فيما يعملون وفيما يقولون ويريدون ان يتفلتوا منها ويتحللوا زاعمين للناس ان هذه الاخلاق وقيودها ما هي الا عرف وتقاليد وان التقيد بالعرف والتقاليد يعوق الفن ويحول دون ترقي الادب وعليه يجب اطلاق الفن وافلات الادب من تلك الضوابط والقيود، وهؤلاء المتغربون يدعون الى الفن العاري والادب الاباحي ويدعون للفنان والاديب حرية في القول والفعل من شأنها ان تهدم اسس الحياة الاجتماعية وتقود المعاني الانسانية الخيرة الى حظيرة البهائم والدواب.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة