في ظل الأوضاع الدولية المتفاقمة في شرق أوروبا، وما لها من تأثيرات متفاوتة الحدة على مستوى العالم، تمت الشهر الماضي، زيارة لافتة في توقيتها ومضمونها للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى طهران، على رأس وفد سياسي واقتصادي رفيع المستوى، التقى خلالها نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي. أهمية هذه الزيارة تبدو متعددة المستويات، ولا تقتصر على التوقيت فحسب، بل تتضمن أيضاً مضامين هامة، خاصة أنه تم خلالها التوقيع على اتفاقية مشتركة للتعاون الاقتصادي والعسكري، تصل مدتها إلى 20 عاماً.
بشكل عام، لا يمكن أن نعدّ هذه النقلة النوعية في العلاقات بين الجانبين، تطوراً مستحدثاً أو تعبيراً عن توجهات جديدة من كاراكاس أو طهران، فحقيقة الأمر أن الأخيرة بدأت منذ نحو عقد من الزمن، في تعميق علاقاتها مع الأولى على المستويات كافة، مدفوعة بهدف أساسي وهو التعامل، بشكل مرن، مع العقوبات الاقتصادية المفروضة على القطاعات الاستراتيجية الإيرانية كافة.
هذا التوجه من جانب طهران، يمكن وضعه ضمن استراتيجية إيرانية عامة، تعتمد على محاولة مد النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري، في دول تمثل بالنسبة إلى الولايات المتحدة نقاط ارتكاز استراتيجية، أو تقع في نطاق ما يمكن وصفه بـ"الحديقة الخلفية" لواشنطن، وقد تكثف هذا النهج وتوسعت أسبابه عام 2018، عقب خروج الولايات المتحدة الأميركية من خطة العمل الشاملة المشتركة، وتستهدف طهران من اتخاذها هذا النهج، تحقيق عدة أهداف تتنوع بين الاقتصاد والسياسة والشأن العسكري.
اقتصادياً، ركزت إيران، منذ جولة الرئيس السابق أحمدي نجاد، في دول أميركا اللاتينية في كانون الثاني/ يناير 2012، على محاولة التخفيف من أثر العقوبات الاقتصادية، عن طريق فتح أسواق جديدة، إذ تمكنت طهران من افتتاح عدة متاجر تابعة لها في مدن فنزويلية مختلفة، وفروع لعدة مصارف إيرانية في العاصمة كاراكاس، بجانب الاستثمار في عدة قطاعات أخرى مثل، قطاع الإسكان ومواد البناء، وقطاع صناعة السيارات، الذي شهد تعاوناً كبيراً من الجانبين، تمثل في تأسيس عدة مصانع مشتركة على رأسها مصنع "بينيروتو".
انتقل التعاون بين الجانبين في السنوات اللاحقة إلى مستويات أعلى، خاصة في قطاع النفط، إذ تمتلك فنزويلا احتياطيات كبيرة من خام "ميري" النفطي الثقيل، لكنها بسبب عقبات مادية ولوجيستية، عانت خلال السنوات الأخيرة من صعوبات في تكرير النفط، وهذا أدى بشكل أساسي إلى دخول البلاد عام 2020 في خضم أزمة محروقات خانقة، خاصة في ما يتعلق بالبنزين. لجأت كاراكاس إلى طهران، التي أرسلت خلال الفترة بين أيار/ مايو وتشرين الأول/ أكتوبر 2020، 5 ناقلات على الأقل، تحمل على متنها مادة البنزين، للتخفيف من أثر هذه الأزمة، بجانب تقديم المساعدة الفنية للقطاع النفطي الفنزويلي، الذي وقع تحت وطأة الأعطال المتكررة، التي أصابت المصافي النفطية التابعة للشركة الفنزويلية الحكومية "PDVSA".
تزايد حجم التعاون بين الجانبين في المجال النفطي، في أيلول/ سبتمبر الماضي، عبر توقيع اتفاقية للمقايضة النفطية، بين الشركة الوطنية الإيرانية للنفط، وشركة "بتروليوس دي فنزويلا"، نصت على توريد النفط الفنزويلي الثقيل إلى إيران، مقابل توريد المكثفات الإيرانية إلى فنزويلا، كي تعمل كاراكاس على استخدامها في تكرير وتحسين جودة النفط المعالج في مصافيها، علماً أن فنزويلا كانت تشتري هذه المكثفات نقداً خلال العامين السابقين. كانت مدة هذه الاتفاقية 6 أشهر، تم تمديدها الشهر الماضي خلال زيارة وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، إلى فنزويلا.
تصاعد حجم هذا التعاون لم يقتصر على تبادل النفط فحسب، فقد تم خلال زيارة أوجي، توقيع عقد بقيمة 110 ملايين يورو، تتولى بموجبه "الشركة الوطنية لهندسة النفط والبناء"، وهي إحدى الشركات الحكومية الإيرانية، عملية إعادة تأهيل مصفاة نفطية فنزويلية وإصلاحها، تبلغ طاقتها 146 ألف برميل يومياً. يضاف إلى ذلك، استفادة الترسانة البحرية الإيرانية، من حاجة فنزويلا إلى ناقلات النفط، إذ تسلمت فنزويلا حتى الآن، ناقلتي نفط من الفئة "أفراماكس"، التي تنتجها شركة "صدار" الإيرانية للصناعات البحرية، إحداهما تم تسليمها خلال زيارة الرئيس الفنزويلي إلى طهران، بطاقة 800 ألف برميل.
على المستوى السياسي، حاولت طهران تقوية علاقاتها مع دول أميركا اللاتينية، إيماناً منها بأهمية هذا المسرح بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهذا كان واضحاً بشكل أكبر من خلال جولة وزير الخارجية السابق، جواد ظريف، في أميركا اللاتينية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والتي زار فيها، بجانب فنزويلا، كلاً من بوليفيا وكوبا، وعقد خلالها اجتماعاً مع نظيره الفنزويلي "خورجي أرياسا"، تحت عنوان "اجتماع إيران - فنزويلا المشترك للدفاع عن العالم الجديد". تعددت منذ ذلك التوقيت الزيارات المتبادلة بين الجانبين، وأبرزها زيارة وزير الخارجية الفنزويلي، فيليكس غونزاليس، إلى طهران في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حيث التقى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، وهي الزيارة التي تم خلالها التحضير لزيارة مادورو إلى طهران.
الجانب العسكري من هذه العلاقة يمكن وصفه بأنه الأكثر أهمية بالنسبة إلى طهران، ويمكن، في هذا الإطار، اعتبار تصريح وزير الدفاع الإيراني الأسبق مصطفى محمد نجار، في نيسان/ أبريل 2009، حول بدء طهران وكاراكاس تنفيذ خطة طويلة الأجل لتعزيز العلاقات بينهما، خاصة على المستوى العسكري، يمكن اعتباره بمنزلة التدشين الأساسي لهذا الجانب من العلاقات بين الجانبين، خاصة أن هذا التصريح جاء خلال زيارة نجار إلى فنزويلا، ليكون المسؤول العسكري الإيراني الأكبر الذي يزور هذه الدولة منذ عام 1979.
بواعث التحرك الإيراني في هذا الجانب كانت تتراوح بين الرغبة في فتح أسواق تصديرية لأنظمتها التسليحية في هذه المنطقة، التي تشترك معظم دولها في الحاجة إلى أسلحة ومنظومات قتالية رخيصة الثمن، وبين إيجاد موطئ قدم استراتيجي مهم للضغط على واشنطن، سواء عبر إثارة الشكوك بشأن إمكانية تأسيس قاعدة صناعية عسكرية إيرانية على الأراضي الفنزويلية، أو إثارة المخاوف بشأن احتمالية نقل صواريخ باليستية إيرانية إلى هناك، أو حتى التلويح بإمكانية دعم الجيش الفنزويلي بشكل نوعي، قد يتيح له تهديد الوجود الأميركي في هذا النطاق الجغرافي.
الدلائل حول حجم التعاون العسكري بين الجانبين ظهرت تباعاً خلال السنوات الأخيرة، فقد زودت طهران كاراكاس بالإمكانيات اللوجستية والفنية، لتأسيس مصنع لإنتاج نسخة من الطائرات الإيرانية بدون طيار "مهاجر-2"، بداية من عام 2009، وقد تمكنت فنزويلا بحلول عام 2018، من البدء بالإنتاج الكمي لهذه النسخة التي تمت تسميتها "سانت أربيا". هذه النسخة كانت مخصصة للاستطلاع والتصوير، لكن في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كشفت فنزويلا عن نسخة مسلحة من طائرات "مهاجر-2"، مسلحة بصواريخ تشابه في تصميمها إلى حد كبير صواريخ "قائم" الإيرانية، وهو ما لفت نظر وزارة الدفاع الإسرائيلية بشدة في ذلك التوقيت.
جدير بالذكر هنا أن نموذجاً مصغراً لطائرة بدون طيار من نوع "مهاجر-6"، ظهر خلال عرض عسكري فنزويلي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، ما أعطى انطباعاً بأن طائرات من هذا النوع قد وصلت إلى فنزويلا، وأنه قد تم البدء في إنتاجها محلياً. وجود طائرات هجومية بدون طيار في فنزويلا، يوفر لها - نظرياً - القدرة على استهداف المصالح الأميركية في هذا النطاق الجغرافي، وهو هدف يخدم أيضاً التوجهات الإيرانية، التي استفادت على المستوى التصنيعي من هذه الخطوة، كونها مكنتها من التحايل على العقوبات المفروضة عليها وعلى فنزويلا، نظراً إلى أن التعاون بين الجانبين في هذا الصدد يعد نقلاً للتكنولوجيا وليس تصديراً للأسلحة.
بالإضافة إلى الطائرات بدون طيار، ظهر في فنزويلا، خلال السنوات الأخيرة، بعض أنواع الأسلحة إيرانية الصنع، من بينها راجمات الصواريخ "فجر-1"، التي تم تثبيتها على ناقلات الجند المدولبة وزوارق الدورية التابعة للبحرية الفنزويلية، ناهيك بوجود تعاون آخر بين كلا البلدين في ما يتعلق بالطائرات الخفيفة، إذ تنتج فنزويلا، منذ أواخر عام 2020، نوعين من الطائرات الخفيفة إيرانية الصنع، هما "فجر-إف2" و"فجر-إف 3 بي"، تحت اسم "سيبو-100" و"سيبو-200".
جدير بالذكر أن موضوع تسلح فنزويلا بأسلحة إيرانية، قد أثير عدة مرات خلال الفترات السابقة، فقد سبق وصرح الرئيس الكولومبي أن فنزويلا بصدد الحصول على تقنيات صاروخية باليستية من إيران، وطرحت سابقاً صحيفة "سيمانا" الأسبوعية الكولومبية، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ملف الرحلات الجوية الإيرانية للمطارات والقواعد العسكرية الفنزويلية، خاصة قاعدة "ليبيرتادور" الجوية شمالي البلاد، وأشارت إلى أن هذه الرحلات تعمل ضمن عملية تمت تسميتها "الدرع البوليفاري 2021"، استهدفت من خلالها طهران تزويد كاراكاس ببنادق هجومية وراجمات صواريخ مخصصة للعمل على متن المروحيات، بجانب بعض الصواريخ البحرية والجوية.
أضافت المجلة حينها أن هذا التعاون العسكري تضمن وصول عسكريين إيرانيين إلى فنزويلا، وهو ما تحدثت عنه الولايات المتحدة سابقاً في كانون الأول/ ديسمبر 2020، على لسان القائد الأعلى للقوات الأميركية في أميركا الوسطى والجنوبية، الأدميرال كريج فالر، الذي قال إن بلاده رصدت وجود أفراد من قوة القدس التابع لحرس الثورة في إيران في فنزويلا، علماً أن واشنطن قامت في شهر أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، بفرض عقوبات على بعض الشركات الإيرانية، بتهمة مساعدة فنزويلا على المستويين العسكري والتسليحي.
الأكيد أن كلاً من كاراكاس وطهران لم تحاولا تقليل مخاوف واشنطن من عمليات نقل الأسلحة الإيرانية إلى فنزويلا، بل قامتا عملياً بزيادة هذه المخاوف، ففي آب/ أغسطس الماضي، صرح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أن فكرة شراء صواريخ من إيران ستكون "جيدة"، كما إن طهران سبق وأرسلت قطعتين بحريتين منتصف العام الماضي، نحو السواحل الفنزويلية، إحداهما كانت سفينة القيادة "مكران"، وكانت حينها محملة بنحو 7 زوارق هجوم سريع، كانت موضوعة على سطحها بشكل واضح وغير مستتر.
إذاً، بشكل عام، يمكن اعتبار توقيع فنزويلا وإيران اتفاقية للتعاون الاستراتيجي المشترك، خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الفنزويلي إلى طهران، بمنزلة تأطير بعيد المدى للتقارب الذي طرأ بين كلا البلدين منذ عام 2020، خاصة أن مدة الاتفاقية تصل إلى 20 عاماً، وهي دليل آخر على التوجهات الإيرانية التي تستهدف فتح أسواق ومجالات أكبر للتعاون مع أكبر عدد من الدول، تحسباً لعدم القدرة على العودة إلى خطة العمل المشتركة، وهو الإطار نفسه الذي من خلاله قامت طهران في كانون الثاني/ يناير 2021، بتوقيع اتفاقية تعاون استراتيجي واقتصادي مع الصين، تبلغ مدتها 25 عاماً.
الاتفاقية الموقعة، مؤخراً، بين طهران وكاراكاس، تشمل التعاون في مجالات الدفاع، كما تضم عدة جوانب اقتصادية، منها التعاون في مجال النفط والبتروكيماويات، والمجال الزراعي والسياحي والثقافي، بجانب تفعيل أكبر للتعاون في مجال الطيران المدني، حيث سيبدأ كلا البلدين في 18 تموز/ يوليو المقبل، في تنظيم رحلة طيران أسبوعية بين العاصمتين الفنزويلية والإيرانية. على الجانب التجاري، اتفق الجانبان على تفعيل جهود اللجنة الاقتصادية المشتركة بين الجانبين، خاصة أن فنزويلا باتت سوقاً مهمة للبضائع الإيرانية، التي تدفقت على البلاد منذ عام 2020.
ختاماً، يمكن القول إن توجهات طهران نحو أميركا اللاتينية، وإن كانت ليست جديدة، ستشهد تطوراً لافتاً خلال المدى المنظور، ضمن جهود إيران للتأكيد على فشل استراتيجية "الضغوط القصوى" الأميركية، وتمكن طهران من توسيع تعاونها التجاري مع الدول الأخرى رغم العقوبات. العلاقة مع أميركا اللاتينية، في ظل ملامح عودة المد اليساري إلى تصدر المسرح السياسي في عدة دول في هذا النطاق الجغرافي، تشجع إيران على التحرك لاستغلال الأوضاع الاقتصادية والسياسية لهذه الدول، لتحقيق عدة أهداف منها توسيع قدرتها على استهداف خصومها، خاصة "إسرائيل"، في مناطق بعيدة وخارج مدى الاهتمام الدولي، وزيادة أوراق الضغط المتوفرة لديها على الولايات المتحدة الأميركية، التي تحتفظ بعلاقات متوترة مع النظام الحاكم في فنزويلا. كل ما سبق يضاف إلى الفوائد الاقتصادية والعسكرية التي ستعود على طهران، من جراء ترويجها لأنظمتها التسليحية في هذا النطاق.
محمد منصور
موقع "الميادين"