البث المباشر

احلى الكلام -۲٦

السبت 19 يناير 2019 - 12:09 بتوقيت طهران

الحلقة 26

كان أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعيّ المتوفّى سنة ستّ عشرة ومئتين عن عمر ناهز التّسعين سنة صاحب لغة ونحو، وإماماً في النوادر والأخبار والطرائف والملح، وأنيساً مؤنساً للخلفاء.
وقد حدّث يوماً، قال: دخلت على الرشيد هارون ومجلسه حافل، فقال: يا أصمعيّ، ما أغفلك عنّا، وأجفاك لحضرتنا.
قلت: والله يا أمير المؤمنين ما لاقتني بلاد بعدك، حتّى أتيتك.
فأمرني بالجلوس، فجلست وسكت عنّي.
فلمّا تفرّق الناس إلا أقلّهم نهضت للقيام أشار إليّ أن اجلس.
فجلست، حتّى خلا المجلس، ولم يبق غيري ومن بين يديه من الغلمان، فقال: يا أبا سعيد، ما معنى قولك: ما لاقتني بلاد بعدك؟
قلت ما أمسكتني يا أمير المؤمنين، وأنشدت قول الشاعر:

كفّاك كفّ ما تليق درهماً جوداً

وأخرى تعط بالسّيف دما

أي: ما تمسك درهما.
فقال: أحسنت، وهكذا فكن: وقّرنا في الملا، وعلّمنا في الخلا.
فإنّه يقبح بالسّلطان ألّا يكون عالما.
إمّا أن أسكت، فيعلم النّاس أنّي لا أفهم إذ لم أجب.
وإمّا أن أجيب بغير الجواب، فيعلم من حولي أنّي لم أفهم ما قلت.
قال الأصمعيّ: فعلّمني أكثر ممّا علّمته.
سألني الأخ الكريم عبد الكافي الشّريف من مصر أن في من قيل هذا البيت، ومن قائله:

بثثت علمك تشريفاً وتغريبا

وعدت بعد لذيذ العيش مندوبا

هذا البيت مطلع قصيدة جميلة رثى بها أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخشّاب المصريّ النحويّ العروضيّ المتوفّى سنة ستّ وستّين وثلاث مئة.
رثى بها المحدّث المؤرّخ المصريّ أبا سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصّدفيّ صاحب تاريخ مصر الخبير بأحوالها، المطّلع على أيّامها.
جمع لبلاده تاريخين: أحدهما كبير خصّ به المصريّين، والآخر صغيرعمّ به الوارد عليها، وقد أجاد فيهما. وهذا ما اقتطفته من رثاء الخشّاب له:

بثثت علمك تشريقاً وتغريبا

وعدت بعد لذيذ العيش مندوبا

مازلت تلهج بالتاريخ تكتبه

حتّى رأيناك في التاريخ مكتوبا

أرّخت موتك في ذكري وفي صحفي

لمن يؤرّخني إذ كنت محسوبا

نشرت عن مصر من سكّانها علماً

مبجّلاً بجمال القوم منصوبا

أنشرت ميّتهم حيّاً بنسبته

حتّى كأن لم يمت إذ كان منسوبا

حجبت عنّا وما الّدنيا بمظهرة

مجداً وإن جلّ إلّاعاد محجوبا

كذلك الموت لا يبقي على أحد

مدى الليالي من الأحباب محبوبا

سألني الأخ الكريم عمر الحربيّ من الرّياض أن ماذا بعد هذا البيت؟

فعاودت قلبي أسأل الصّبر وقفة

عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري

قلت: هذا البيت الجميل لأبي محمّد عبد الله بن القاسم الشّهرزوري المنعوت بالمرتضى، وكان شابّاً مشهوراً بالفضل والدّين مليح الوعظ، رشيق القول.
أقام ببغداد فقيهاً محدّثا، ثمّ رجع إلى الموصل، وتولّى القضاء بها، وله شعر رائق منه قوله المسئول عنه وما بعده كما أورده العماد الإصفهانيّ في خريدة القصر، ونصّه:

فعاودت قلبي أسال الصّبر وقفة

عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري

وغابت شموس الوصل عنّي وأظلمت

مسالكه حتّى تحيّرت في أمري

فما كان إلاّ الخطف حتّى رأيتها

محكّمة والقلب في ربقة الأسر

وله هذا المعنى الجميل أيضاً:

يا ليل ما جئتكم زائراً

إلاّ وجدت الأرض تطوى لي

ولا ثنيت العزم عن بابكم

إلاّ تعثّرت بأذيالي

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة